ما جرى في الفيحاء أمس لم يكن مجرد انتخابات فرعية، انتهت بنتيجة متوقعة قضت بعودة ديما جمالي إلى البرلمان، بقدر ما كانت عملية سياسية، أراد الطرابلسيون من خلالها توجيه رسالة قاسية إلى القيادات السياسية في المدينة.
التوافق الواسع الذي جمع معظم القوى السياسية، لم يحل دون أن تعبّر الفيحاء عن أوجاعها، عبر هذه النسبة الضئيلة من التصويت، تماماً كما عبّرت في الانتخابات البلدية عن رغبتها في التغيير، عبر التصويت للائحة المدعومة من اللواء أشرف ريفي، ضد اللائحة الإئتلافية التي ضمّت ممثلين عن الأطراف السياسية التقليدية في المدينة.
صحيح أن الحماس في الانتخابات الفرعية يكون بارداً، والإقبال يبقى متدنياً، ولكن الصحيح أيضاً أن طرابلس أظهرت أمس مدى المظلومية التي تعاني منها المدينة وأهلها، منذ عشرات السنين، من عهدٍ إلى عهد، ومن حكومة إلى أخرى، ومن انتخابات إلى خطابات لشدّ العصب وإطلاق الوعود والمزايدات، تتوارى جميعها في ظلمات الإهمال والنسيان، مع انطفاء شمعة الانتخابات.
هل يجوز أن تتحوّل العاصمة الثانية للبنان إلى أفقر مدينة على شاطئ المتوسط ، رغم توفر كل المقومات لتكون، بكل جدارة، العاصمة الاقتصادية للبلد، حيث تضم أكبر معرض في المنطقة، وواحداً من أكبر المرافئ في شرق المتوسط، ومطاراً لا يبعد سوى بضعة كيلومترات عن وسط المدينة التجاري، ومصفاة للنفط، كانت مداخيلها يوماً ما مدماكاً مهماً للاقتصاد الوطني، ومشروع منطقة اقتصادية ما زال حبراً على ورق رغم مضي بضع سنوات على إقراره، فيما بدأت «موضة» المناطق الاقتصادية تنتشر في طول البلاد وعرضها!
ما هو مُبرِّر غياب الدولة عن عاصمة الشمال، بل وعن الشمال كله، وترك البنى التحتية فريسة للاستهلاك والاهتراء، وهذا التغاضي المشين عن نشوء أكثر الأحياء فقراً في لبنان في المناطق الشعبية الأكثر اكتظاظاً بالسكان المغلوبين على أمرهم، حيث يعيش معظمهم تحت خط الفقر، وبمدخول يومي لا يصل دائماً إلى الخمسة آلاف ليرة.
لماذا يستغرب البعض هذا الشعور المهين المهيمن على آلاف العائلات الطرابلسية بأنهم مواطنون من الدرجة الثالثة في وطنهم، حيث يتعرضون للملاحقات الأمنية بوشايات مغرضة، ويتم توقيفهم أشهراً في أقبية الأجهزة الأمنية من دون أن يعرف ذويهم عنهم شيئاً، ويُزج بهم في السجون سنوات عديدة من دون محاكمات، فيما الكلام عن العفو تحوّل إلى شعار خطابي، يتجدّد طرحه في كل موسم انتخابي.
هل يعرف أهل الحل والربط في المدينة أن طرابلس تُسجّل أعلى نسبة بطالة في لبنان، وأعلى نسبة تسرّب من المدارس، وأعلى نسبة كساد في الحركة التجارية، وأعلى نسبة تراجع في الحركة العقارية؟
هل تدري القيادات الطرابلسية أن ابن مدينتهم يحصل على أدنى الخدمات الصحية، ويعاني من غياب المساعدات الاجتماعية، ولا تتوفر له دائماً إمكانية دفع الأقساط المدرسية؟
رسالة الفيحاء القاسية لم تكن موجهة إلى طرف سياسي معين، وخاصة تيار المستقبل، حيث ما زالت المدينة متمسكة بوفائها للرئيس الشهيد رفيق الحريري، بقدر ما كانت تعني قرع جرس الإنذار لقيادات المدينة المقصّرة تجاه أبنائها، والانتفاضة ضد أساليب الوعود الانتخابية التي لم تُجدِ نفعاً في إقناع الناخب الطرابلسي، الذي يستذكر قول الرئيس الشهيد المعروف: «لا تصدق كل ما تسمعه أذنيك»!
وانخفاض نسبة الإقبال على الاقتراع ليس انتصاراً لدعوة فريق «٨ آذار» بالمقاطعة، لأن طرابلس كانت خياراتها، وما زالت، مع مبادئ ومواقف حركة «١٤ آذار»، وما تمثله في السياسات الداخلية والإقليمية، رغم كل ما أصاب هذه الحركة الوطنية من تصدّع بنيوي، ووهن سياسي في السنوات الأخيرة.
من حق طرابلس على لبنان، الدولة والمؤسسات والمسؤولين، العمل على توفير المناخات الملائمة لتنفيذ المشاريع الإنمائية والحيوية التي تفتقدها المدينة، ورفع المظلومية عن أبنائها، سواء المهمّشين والعاطلين عن العمل، أو المعتقلين بلا محاكمات منذ سنوات، فيما القادمون من مناطق العدو الإسرائيلي يخضعون لمحاكمات سريعة، يخرجون على إثرها بأحكام مخففة.
من حق طرابلس، العاصمة الثانية للبنان، أن تحظى بالحصة الثانية من المشاريع والخدمات، خاصة وأنها ثاني أكبر مدينة في التعداد السكاني، وتتوفر فيها كل المقوّمات لتكون «العاصمة الاقتصادية»، حيث يتنافس الصينيون والأتراك على قطف ثمار هذا المشروع الكبير، وساسة الفيحاء لاهين في زواريب السياسة الضيقة!
طرابلس انتخبت أمس على طريقتها، لإيصال رسالة الفرصة الأخيرة!