الإحتجاجات أمام مبنى سراي طرابلس ومحاولة اقتحامها وحتى رشقها بالحجارة وقنابل المولوتوف، لم تدفع إلى قيام موجة استياء واسعة في المدينة كما حصل لحظة إحراق المحكمة الشرعية ومبنى البلدية. فإحراق مبنى بلدية طرابلس بما يرمز، كان بلا شك عنصراً مبدّلاً للأحداث. البعض رأى فيه تطوراً خطيراً بعدما تحوّلت الإحتجاجات إلى أعمال شغب لا تمت إلى مطالب المحرومين بصلة، ومحاولة للعبث بتاريخ طرابلس وحاضرها ومستقبلها، والبعض الآخر رأى فيه “عملاً مدبّراً للقضاء على الإحتجاجات وتشويه صورتها”. وسواء كان هذا السبب هو الصحيح أم ذاك، إلا أن إحراق المبنى البلدي كان بالتأكيد الحدث الذي بدّل وجه الإحتجاجات، وجعل الجميع من دون استثناء وحتى من كان يؤيد الإحتجاجات، ولو تم استهداف السراي بالمولوتوف، يقول عن الإحتجاجات نفسها في اليوم التالي بعد استهداف البلدية: هذه صارت أعمالاً تخريبية.
ومبنى بلدية طرابلس ليس مجرد بناء عادي في ساحة التل وسط المدينة، بل هو شاهد حي عن تاريخ هذه المدينة، وبالتالي فإن محاولة شطبه من حاضر طرابلس، تساوي بالحساب والمنطق، محاولة شطب جزء مهم جداً من تاريخ هذه المدينة وحاضرها. فما سرّ هذا المبنى؟
يقول عضو المجلس البلدي ورئيس لجنة الآثار والتراث الدكتور خالد تدمري إنّ “القصر البلدي له رمزية تاريخية ومكانة كبيرة في طرابلس ويمثّل هوية المدينة وعراقتها. والبلدية هي واجهة طرابلس وبمثابة حكومتها المحلية. إنها أول سلطة رسمية تأسّست في العهد العثماني إبان فترة التنظيمات الإدارية التي انطلقت نهاية القرن التاسع عشر، حيث عُمل بنظام تأسيس البلديات في مراكز الولايات العثمانية، وكانت بلدية طرابلس أولى تلك البلديات في لبنان وهي كانت مركزاً لولاية طرابلس الشام، وبُني أول مركز لها سنة 1877 في المنطقة المعروفة بالسراي العتيقة، ومن ثم انتقلت البلدية إلى مبناها القائم حالياً في زاوية ساحة التل، مع بدء تخطيط الساحة ووسط المدينة الإداري الجديد في عهد السلطان عبد الحميد الثاني، حين تمّ تحديد موقع القصر البلدي الجديد ووضعت التصاميم المعمارية له مع مطلع القرن العشرين، إلا أن اندلاع الحرب العالمية الأولى حال دون إنشاء المبنى وقتها، إلى أن بُني لاحقاً في ظل الاحتلال الفرنسي واكتمل على مرحلتين بين العامين 1929 (الطابق الأرضي) و1932 (الطوابق العلوية) ويتجاوز عمره اليوم التسعين عاماً”.
ويتوسّع تدمري أكثر في الشرح عن تلك الحقبة ويقول: “لقد اعتُبرت البلدية في تلك الحقبة من المؤسسات الجديدة التي تم تأسيسها، بالإضافة إلى المستشفيات والمدارس والبريد وغيرها.. من هنا طرابلس التي كانت مركزاً لولاية كبرى تصل حدودها إلى حمص وتشمل كل مناطق عكار والضنية، ومن الجنوب تصل إلى منطقة المعاملتين، كانت مدينة كبرى استحدثت فيها أولى بلديات لبنان وكان مركزها في مدخل السوق العريض، حيث كانت تقع سراي البلدية وبجانبها السرايا الحكومية. ومع الأسف هُدمت تلك السرايا في مطلع القرن الماضي ولم يبق سوى بوابة البلدية الرئيسية. مع تطور التنظيمات الإدارية تطور تخطيط المدينة على الصعيد المدني فكانت هناك حاجة لاستحداث ساحة في المدينة ووسط جديد لها تكون فيه كل الأبنية الإدارية مجتمعة، فتمّ تأسيس وسط المدينة الحديث وهي ساحة التل، التي أنشئت فيها السراي الحكومية وبات يعبر “الترامواي” في الأسواق”.
أضاف: “كما أنشئت المدرسة السلطانية والرشيدية ومبنى البريد والتلغراف والمسرح الأول في المدينة (مسرح الإنجا) وأول الفنادق (رويال) وأول المصارف، وبعض القصور لأغنياء المدينة وأصبحت منطقة مأهولة وفيها حياة دائمة. وتخطط أن تبني البلدية في تلك الزاوية المشرفة على الساحة، وخلفها كان يقع مخفر التل الذي تحوّل إلى مدرسة ميّ وخلفها المدرسة السلطانية التي لا تزال موجودة وتعرف بالمدرسة الجديدة. إذاً، تخطيط موقع البلدية والتصميم المعماري وضعا من قبل العثمانيين، وبعد الإحتلال الفرنسي أنشئت البلدية على الموقع والتصميم الذي وضعه العثمانيون وكما بات معلوماً على مرحلتين، وهي مبنية من الحجر الصخري وشهدت الكثير من الأحداث التاريخية إلا أنها لم تتعرض في تاريخها إلى أي عمل تخريبي كما حصل حديثاً”.
الأرشيف البلدي
يشدد تدمري على أنّ “هناك الكثير من المعلومات الأرشيفية التي كانت تؤرخ لتلك المرحلة منذ تأسيس البلدية في العام 1877 فقدت من داخل البلدية في ستينات القرن الماضي، عندما أتلفت البلدية حينها بقرار نجهل سببه الحقيقي، الأرشيف الضخم الذي يعود إلى فترة تأسيس البلدية وحتى مطلع ستينات القرن الماضي. وقالوا حينها إن السبب يكمن في أن الأرشيف ضخم والأوراق بالية. ولذلك أرشيف البلدية اليوم لم يكن يضم وثائق تلك الحقبة ولا حتى فترة تأسيس الجمهورية اللبنانية ولا حتى فترة تأسيس البلدية”.
وحول ما يمكن أن يشكّله استهداف مبنى البلدية من دوافع يقول تدمري: “نحن ننتظر التحقيقات في هذا الشأن، ولكن عملية استهداف السرايا بالدرجة الأولى وما تحويه من أرشيف النفوس والمعاملات الشخصية؛ وكذلك المحكمة الشرعية بما تمثله من ثقل سني وفيها أقدم الوثائق العثمانية في تاريخ لبنان، ومن ثم البلدية بما تمثّله من أرشيف ضخم يخص كل مواطن طرابلسي، هذه ليست عملية عشوائية وغير مدبرة بلا شك… ربما من قاموا بها لا يعلمون أبعادها ولكن من دفعهم إليها يعلم أن حرق أرشيفات المدينة ومبانيها الرئيسية، يجعلها تظهر بصفة الخارجة عن القانون والمتنكرة لتاريخها وحاضرها، وكأن أبناءها لا يعنيهم كل هذا التاريخ. وتفقد المدينة هذا الأرشيف الضخم ويعاني بعدها مواطنو طرابلس لعقود بفقدان معاملاتهم وأوراقهم الشخصية، كما حدث عندما أحرقت أرشيفات السرايا إثر ثورة شمعون سنة 1952 وأيضاً حرق المحكمة الشرعية في فترة الحرب اللبنانية”.
جهاز الشرطة
ويتبع لبلدية طرابلس جهاز شرطة يتألف من 100 عنصر وله قيادة. هناك الكثير من الأحاديث تدور في طرابلس عن تقصير هذا الجهاز في الدفاع عن البلدية، وهو يعلم أن المحيط من حولها يغلي، وقد تتعرض للضرر والإعتداء في أي وقت! رئيس البلدية رياض يمق كان قد قال عن هذا الموضوع في حديث إعلامي سابق: “تعرضت البلدية لاعتداء شيطاني وأعداد المعتدين فاقت أعداد الشرطة بأضعاف، ولو حصل أي احتكاك مع عناصر الشرطة ربما كانت حصلت مجازر وقتها”.