طرابلس إشكالية ماثّلة في تاريخ لبنان منذ تأسيسه، هي المدينة المتمسّكة دائماً بعروبتها، والتي دفعت من دماء وحرية أبنائها ثمن إنتمائها حين كان لبنان ذي وجه عربي. وحين أقرّ الدستور عروبة الوطن، وضعها النظام الأمني السوري اللبناني في قفص الإتّهام وسُلخت أمنياً وإقتصادياً عن الوطن. الشبكات الإرهابية العابرة للحدود تولّت منذ خروج الجيش السوري مهمة إعادتها إلى هذا القفص، بدءاً من أحداث نهر البارد ومروراً بأكثر من عشرين جولة من الإقتتال داخل أحيائها، يعرف اللبنانيون كافة كيف بدأت ولا يعرفون لماذا وكيف انتهت!!!.
طرابلس التي لا تشبه إلا نفسها بكلّ أشكال المعاناة والتهميش والإتّهام والإقتتال، لا يمكن إلا التوقّف مليّاً عند ما أفرجت عنه انتخاباتها البلدية.
هل كانت فعلاً هذه الإنتخابات تنموية ولا علاقة لها بالسياسة؟ لو سلّمنا بذلك، فما هي نقاط الخلاف التنمويّة أو البيئية التي تباينت حولها اللوائح المتصارعة؟ طبعاً، لا تجوز السذاجة إلى هذا الحد!؟.
«العائلات في مواجهة الأحزاب» كعنوان سخيف تمّ استحداثه في بلدات ومدن لبنانية لتبرير فشل القوى السياسية، لا يمكن تمريره في طرابلس أو إدراج ما جرى تحته. الخلاف أيضاً لم يكن حول التسوية في سوريا أو حول قانون الإنتخابات أو أي من العناوين الكبرى، فالسياسة بالمفهوم الوطني الشامل ليست مسموحة للطبقة السياسية في لبنان، بل إنّ إخفاق السياسيين في الملفات الوطنية والقضايا الكبرى، دفع بهم إلى الحارات الشعبية علّهم يجدون قضية يتنازعونها، حيث دافع المواطنون عن حيثياتهم وخصوصياتهم المجتمعية بأبعادها الأهلية والمكانية والحياتية اليومية.
إنّ الفصل الإجتماعي عن السياسي في لبنان (طرابلس نموذجاً)، أمر مخالف لتكوين السلطة في لبنان. حتى السلطة السيئة أو التي تتحوّل إلى سيئة هي وليدة عوامل إجتماعية، يختزنها اللاوعي الجماعي للشريحة الإجتماعية التي أنتجتها. السياسة تصنع في المرجل الاجتماعي وهذا المرجل غير موجود إلا عند الذين يرغبون بإيجاده.
على ماذا اقترع الطرابلسيون إذن ضمن البيت الواحد؟، إقترعوا بوجه عدم إحالة ميشال سماحة على المجلس العدلي، وعدم تحقيق أيّ تقدم في ملف تفجير مسجديّ النور والتقوى، والتأجيل المستمر في محاكمة الإسلاميين، إقترعوا بمواجهة من تغاضى عن فرار علي ورفعت عيد، إقترعوا بمواجهة التهميش والحرمان والصراع المتمادي حول أي مشروع تنموي يطال المدينة وإقترعوا بمواجهة من وسمهم بالإرهاب ووضعهم في دائرة الشك الدائم. إقترع الطرابلسيون بوجه القضاء والأمن والإنماء. إنّ عاملاً واحداً من هذه العوامل يكفي لإشعال ثورة عارمة من الغضب والرفض فكيف باجتماع كلّ عوامل انسداد الأفق واليأس.
يقول المثل الفرنسي «A force de forger, on devient forgeron» نصبح حدّادين من ممارستنا الحدادة، كذلك نصبح ديمقراطيين من ممارستنا الديمقراطية. إنّه اليسار الجديد في زمن سقوط الأيديولوجيا كالذي عشناه في ستينات وسبعينات القرن الماضي حين كان الخطاب الوطني المعترض يعبّر عنه الإتّحاد العمالي العام وطلاب الجامعة اللبنانية والنقابات وعمال غندور ومزارعو التبغ بمواجهة سلطة فوقية لا تمتلك أدنى مقومات التواصل مع المواطنين.
التنافس البلدي الطرابلسي لا زال ضمن البيت الواحد، لقد أهدى اللواء أشرف ريفي الفوز إلى روح الرئيس الشهيد رفيق الحريري وأرواح شهداء ثورة الأرز ومبادىء السيادة والإستقلال. ليس مطلوباً، بل من الخطأ الذهاب إلى فكرة استعادة المدينة، طرابلس في موقعها محتفظة بدورها وقيّمها، الإشكالية هي الإعتراف بضرورة العودة إلى المدينة. من هنا، يجب مواجهة العقليات العتيقة والجديدة غير المتكيّفة والمتعالية على واقعها والتي هي السبب في فقدان البوصلة السياسية.
إنّ التغيير والإنماء ضرورتان مطلوبتان من داخل المدينة وغير قابلتين للمساومة. أما في ما عدا ذلك، فيجب البناء في كلّ شيء على تسوية خلاقة منفتحة مبنية على خطاب عقلاني في مدينة تدور حولها الغرائز والأهواء والموروثات ما دون الواعية. إنّ إعادة قراءة المواقف السابقة واستخلاص العبر واجبة ليس لأنّها كانت باهظة الثمن فحسب بلّ لأن في استمرارها الكثير من الحماس الفارغ والمُميت والكثير من الغباء السياسي أيضاً.
* مدير المنتدى الإقليمي للدراسات والإستشارات