IMLebanon

عن طرابلس والفقر والإنتهازية السياسية

مع جلاء مشهد المعركة لمصلحة الجيش اللبناني في مواجهة الجماعات الإرهابية المسلّحة في طرابلس، في الامكان اتخاذ خطوة الى الوراء وقراءة ما جرى من زوايا عدة، والاهم أخذ العبر والتنبّه من إمكان تكرار المشهد نفسه في الشمال أو مناطق لبنانية أُخرى اذا لم تتغيّر السياسات والتصريحات والأساليب السياسية غير النظيفة.

مَن يعرف طرابلس جيداً، لن يحار طويلاً في تفكيك طلاسم المشكلة وملامحها. المدينة الشمالية ذات الأكثرية الإسلامية، هي أفقر مدينة على البحر المتوسط، وتفصل بين اغنيائها وفقرائها هوّة ضخمة من التفاوت الاجتماعي والثقافي والاقتصادي.

اذا اردنا اخذ طرابلس نموذجاً للتفاوت الطبقي، وتراكم سنوات من الفقر والجهل والحرمان والتخلف، وأضفنا اليها كل عمليات التحريض والاستغلال والانتهازية السياسية، سنخرج بفهم أدق لطريقة تشكّل خلايا ارهابية في المدينة، ونموّ الفكر التكفيري على جوانبها وفي صلب شخصيتها.

تعود جذور التطرف في طرابلس الى اواخر السبعينات من القرن الماضي. يومها وجد «الفكر الجهادي» والسلفي مساحة لينمو ويترعرع في موازاة «تقديس» الجهاد الافغاني واعتباره بفعل المال والاعلام والسياسة والاستغلال الديني بداية «الصحوة الاسلامية» السنّية في وجه منظومة الكفر التي كان يمثلها يومذاك الاتحاد السوفياتي السابق.

منتصف الثمانينات ومع سقوط الدولة بفعل الحرب الاهلية والاجتياحات الاسرائيلية والنزاع الاقليمي، ظهرت أول «إمارة اسلامية» على البحر المتوسط اعلنها وانشأها الشيخ سعيد شعبان زعيم حركة «التوحيد الاسلامي» بالتحالف مع الرئيس ياسر عرفات.

كلفّت هذه الإمارة ومعها النزاع السوري ـ الفلسطيني طرابلس أثماناً باهظة أدت الى تدميرها. وزاد من «الاحباط» لدى «الشباب المؤمن» انتهاء الحرب في افغانستان أواخر الثمانينات، واصطدام «المجاهدين» الأفغان بدولهم ومجتمعاتهم بعد عودتهم اليها، ولم ينجُ بعض شبان طرابلس العائد من افغانستان من المصير نفسه، حيث عاد الى المدينة وقد انتهت الحرب الاهلية، وعادت مظاهر الدولة، ونشأت وصاية سورية ـ سعودية على لبنان وتحكمت بالأمن والدفاع والاقتصاد والاجتماع.

منذ ذلك الحين بدأت تنمو «الموجة الثانية» من الفكر المتطرف الذي ظلّ مكتوماً وملاحقاً طوال فترة التسعينات، لكنه ظلّ قادراً على تنفيذ عمليات «نوعية» من ضمنها اغتيال الشيخ نزار الحلبي عام 1994، واغتيال القضاة الأربعة في صيدا عام 2000.

جاءت أحداث الضنّية ليلة رأس السنة عام 1999 ـ 2000، لتضيء مجدّداً على «المعضلة التفكيرية»، وكانت أول مواجهة مع الجيش اللبناني، سقطت على أثرها اول محاولة جدّية لضرب الدولة في الشمال، والشروع في العمل على تحقيق «الإمارة».

مَن يذكر تلك المرحلة، يتذكر دور الوساطة الذي لعبه النائب خالد الضاهر بين المسلحين المعتصمين في «جرود الضنّية»، وبين الجهاز الامني اللبناني ـ السوري المشترَك. وكيف انفجرت المعركة اثناء وجود «الوسيط» مع المسلحين، والذاكرة لا تسعف إلّا المتضررين، وعائلة الرائد الشهيد ميلاد النداف أكثر مَن يتذكر ويعرف…

انتهت معارك جرود الضنّية ولم تنتهِ المشكلة. بعد أحداث 11 ايلول 2001، واحتلال الاميركيين العراق وافغانستان، انتعشت ظاهرة «الجهاديين التكفيريين» وشارك اشخاص من المدينة في القتال في كابول وبغداد وانضموا الى تنظيمات متطرفة، ومع اغتيال الرئيس رفيق الحريري عام 2005 أخذت «الظاهرة» بعداً شعبياً استفاد من العوامل الاجتماعية والتحريض السياسي ليبني قاعدة صلبة داخل طرابلس والشمال، ولكنه سقط في ثاني اختبار عسكري عام 2007، مع اندلاع معركة «النهر البارد» وقيام الجيش اللبناني بحسمها لمصلحة الدولة والمنطقة.

مع بداية الأزمة السورية، ظهر تقاطع مصالح واسع بين التكفيريين وبعض داعمي ما يسمّى «الثورة السورية». راهن تيار «المستقبل» وبعض سياسيي المدينة على سقوطٍ سريع للنظام والدولة في سوريا، واستفاد التكفيريون من هذا التورط وراحوا يعملون على مشاريعهم الخاصة مقابل الرهانات والخيارات الاخرى.

ليس ادلّ على هذا التقاطع سوى الضغط الهائل الذي مارسه في الشارع رئيس الحكومة السابق نجيب ميقاتي لإطلاق الارهابي شادي المولوي يومَ اعتقله الامن العام بناءً على معلومات وثيقة عن علاقته بتنظيم «القاعدة» وفرعها الشامي «جبهة النصرة».

منذ ثلاث سنوات وأكثر، تُسجّل الاجهزة الامنية تحركات «تكفيرية» متطرفة، وترصد تقارير عن التحضير لعمل ما في طرابلس. السياسيون الانتهازيون الذين رفعوا منسوب الخطاب المذهبي والسياسي لم يكترثوا لنتائج مسلكهم هذا.

أصبح الخطاب التكفيري منسجماً مع الخطاب السياسي لتيار «المستقبل» وقوى 14 آذار الى حدود التطابق. وهذا ما كان يصبّ دائماً في مصلحة الجماعات الارهابية التي تراهن على سقوط الدولة. التهجّم على الجيش اللبناني، وشنّ الحملات السياسية والاعلامية في وجهه أمّن «البيئة السياسية» الحاضنة للإرهاب.

ولكنّ الإفتراق وقعَ مع التحوّلات السياسية والعسكرية في المنطقة، ورفع اليد تدريجاً عن «شبان المنطقة» بدأ مع تشكيل حكومة الرئيس تمام سلام، ومع التطوّرات الاخيرة وجد الجيش نفسه في مواجهة حتمية مع «مشروع» لديه أجندة وعقيدة، في حين نأى السياسيون بأنفسهم وتخلّوا عمَن ورطوهم ووقعت المعركة المكلفة للجيش وضباطه وجنوده، ونجت المدينة ونجا معها لبنان من مخطط كان من شأنه ضرب الكيان اللبناني واقتطاع جزء منه لمصلحة دولة «داعش» الممتدّة من النهر في العراق وتطمح الى البحر في الشمال اللبناني.

من المستغرَب أن يعلن نوابٌ ووزراءٌ في المدينة منذ العام 1992، عن المطالبة برفع الحرمان والظلم عن طرابلس!! هذه تصريحات انتهازية لم تعد تمرّ على طفل صغير. والسؤال البديهي الذي سيطرحه اصحاب الفكر المتنوّر في طرابلس على هؤلاء: مَن أفقَرَ طرابلس؟

ومَن أخذ الموازنات ووضعها في حساباته المصرفية؟ ومَن ورط الشبان وتخلى عنهم؟ ومَن يزايد في ملف الاسلاميين الموقوفين ولا يقوم بخطوة جدية لاطلاقهم او تسريع محاكماتهم مع أنه الاكثر «مَوْنة» في قصر العدل وعلى القضاء؟

الطبقة السياسية التي تبكي على طرابلس اليوم، وتتظاهر بالحزن على شهداء الجيش اللبناني، مسؤولة عن كل قطرة دم سقطت في المدينة. وكالعادة الفقراء من ضباط وجنود ومدنيين وحتى «الشباب المتديّن»، يدفعون الثمن ويُطوى الملف ويستأنف البعض لعبته المفضلة: الانتهازية والتحريض واستخدام الضعفاء في معارك السلطة والنفوذ.