بلغت الاحتجاجات في طرابلس يوم أمس ذروتها، في اليوم الرابع من الاعتراض على قرار الحكومة يوم الخميس الماضي تمديد الإقفال العام حتى الثامن من شباط المقبل، ما أعاد إلى الأذهان مشاهد حركة الاحتجاج الواسعة التي تصدّرتها عاصمة الشمال بعد 17 تشرين الأول 2019.
وكما في الأيّام الأربعة السابقة، ينزل المحتجّون مع دنوّ ساعات العصر إلى الشوارع والطرقات ويبدأون بقطعها، تدريجياً، بالإطارات المشتعلة وحاويات النفايات والحجارة وكل ما يصادفونه في طريقهم، فيقطعون أوصال طرابلس ويسدّون مداخلها، ما يجعل التجوال فيها بالسيارة، أو الخروج منها والدخول إليها، مغامرة محفوفة بالمخاطر.
شرارة انطلاق الاحتجاجات بدأت في الأيّام الأربعة الماضية من منطقتَي المنكوبين والبداوي، عند المدخل الشمالي لمدينة طرابلس، عندما تجمّعت نسوة مع أطفالهن في المحلّتين احتجاجاً منهنّ على تردّي الوضع المعيشي لعائلاتهن بسبب قرار الإقفال. وامتدت الاحتجاجات تباعاً إلى بقية المناطق في طرابلس، وخصوصاً القبة وتقاطع المئتين وعزمي والمصارف، وصولاً إلى ساحة عبد الحميد كرامي (النور). كذلك وصلت إلى مدينة الميناء وكورنيشها البحري.
ساحة كرامي (النّور) شهدت طوال الأيام الأربعة السابقة، ليلاً على وجه التحديد، المواجهة الأبرز والأعنف بين المحتجّين من جهة، والجيش والقوى الأمنية من جهة أخرى، إذا ما قورن الأمر بما حصل في بقية مناطق طرابلس وفي المناطق اللبنانية الأخرى.
ليلة أمس، بلغت المواجهة بين الطرفين ذروتها، بعدما تجمّع محتجّون أمام مدخل سرايا طرابلس المتاخمة للساحة، مطالبين بالإفراج عن محتجّين جرى توقيفهم من قبل الجيش والقوى الأمنية أول من أمس، بعدما سدّوا منافذ الساحة التسعة بالإطارات المشتعلة وحاويات النفايات والحجارة، قبل أن يتوجّهوا إلى مدخل السرايا الرئيسي ويرشقوا بوابته الحديدية بالحجارة، ويضرموا النار في إطارات سيارات أشعلوها أمامه وفي حاوية نفايات جرى وضعها عند المدخل.
انكفاء القوى الأمنية إلى داخل السرايا شجّع المحتجّين على الدخول إلى غرفة التفتيش عند مدخل السرايا وغرفة الحرس المقابلة لها، فعبثوا بمحتويات الغرفتين بعد تسلقهما وإزالة السياج الحديدي الشائك من فوق سقفهما، ما أثار مخاوف من أن يقتحم المحتجون السرايا، والعبث بها، وهو أمر كان سيؤدي لا محالة إلى مواجهة مباشرة بين المحتجين والقوى الأمنية الموجودة داخل السرايا.
هذا السيناريو المحتمل عمل الجيش بتدخّله على تفاديه، بعد استقدام تعزيزات لهذه الغاية، فقام بإبعاد المحتجّين أولاً عن المدخل الرئيسي للسرايا، ومن ثم إبعادهم من ساحة كرامي (النور) باتجاه الشوارع والأزقة المجاورة لها، مستخدماً لهذه الغاية قنابل الغاز المسيل للدموع والرصاص المطاطي، ومطلقاً الرصاص الحيّ في الهواء.
انسحاب المحتجّين من الساحة لم يدفعهم إلى توقيف تحركهم، فبعدما قاموا بحرق سيارتين في محيط الساحة، إحداهما تابعة لقوى الأمن الداخلي وأخرى لعنصر أمني ركنها في مكان قريب، توجّهوا نحو مخفر التل حيث أضرموا الإطارات المشتعلة أمام مدخله، بعدما عجزوا عن اقتحامه، بالتزامن مع تدخّل الجيش الذي أبعدهم من المكان، قبل أن يُسيّر دوريات راجلة ومتحركة ويضع نقاطاً ثابتة ومتحركة في الأحياء الساخنة في المدينة، تحسباً لتمدد الفوضى والخروج عن السيطرة، وسط دعوات من محتجين للنزول إلى الشارع، وعدم الخروج منه حتى تحقيق مطالبهم.
بدأت شرارة الاحتجاجات بدفع من أشخاص محسوبين على بهاء الحريري، إلا أن استمرارها لم يعد حكراً عليهم
أبرز هذه المطالب هو العودة عن قرار الإقفال ومساعدة أهالي مدينة يقيم فيها أكثر من نصف مليون نسمة، أكثر من 55 في المئة منهم يعيشون تحت خط الفقر، اعتادوا تاريخياً أن يعترضوا على السلطة المركزية وقراراتها التي يرون أنها تستهدفهم، بينما هم يقتاتون ممّا يجنونه من أعمالهم البسيطة يوماً بيوم.
أحد المشاهد على هذا الاعتراض تمثّل بصراخ أحد المحتجّين بأعلى صوته في وجه مواطنين احتجزوا داخل سياراتهم عند تقاطع شارع المصارف، بعد سدّه بالإطارات والحجارة وحاويات النفايات: «سكّروا البلد حتى ما عدنا قادرين نجيب علبة بنادول. أولادنا جيعانين. خلصنا».
الاحتجاجات في طرابلس التي بدأت قوى سياسية وأمنية تبحث في إمكان وجود محرّكين لها، وسط حديث عن دور للمنتديات التابعة لبهاء الحريري في إشعال شرارتها، امتدّت إلى عدد من المناطق، وخاصة في تعلبايا بقاعاً ومفرق برجا على طريق بيروت ــــ صيدا. كذلك قطع محتجّون طريق المطار لبعض الوقت. وقالت مصادر أمنية إنه لم يظهر بعد وجود فريق واحد يحرّك المحتجين في المناطق المختلفة، بل «عدوى» تنتقل نتيجة الوضع المعيشي الكارثي، وخاصة في ظل الإقفال العام وغياب المساعدات الجدية من قبل الحكومة للعائلات الأكثر فقراً. لكن المصادر نفسها أكدت أنه في طرابلس، بدأت شرارة الاحتجاجات بدفع من جهات سياسية، وتحديداً من قبل أشخاص محسوبين على بهاء الحريري، إلا أن استمرارها لم يعد حكراً على «جماعة بهاء»، إذ انضم إليها كثيرون، سواء كمجموعات أو أفراد يعبّرون عن غضبهم مما آلت إليه أحوالهم.