Site icon IMLebanon

في أنّ طرابلس اليوم… مخطوفة!

 

قبل أكثر من سنة، يوم اشتعل لبنان احتجاجات متنوعة الأهداف، كانت طرابلس حاضرة بقوة في المشهد. لكنّ أحداً لم يكن يقدر على الإمساك بخيوط اللعبة هناك. الجميع شاركوا في الاحتفال. سياسيون ورجال دين، زعماء وفقراء، أحزاب عريقة وأخرى مستجدة، جمعيات مدنية وسفارات عربية وإقليمية ودولية، أجهزة أمنية وجيوش محلية وإقليمية ودولية، فنانون وإعلاميون وناشطون من مختلف الأجناس…

 

مضى وقت طويل، وصورة الاحتفال الليلي تحتل الشاشات. لكن، ثمة من قرر أن بيروت تحتاج إلى «عضلات» الطرابلسيين. فكانت الحافلات تنقل ما تيسّر يومياً لمقارعة «شباب النظام» أو «جماعة الثورة المضادة». وهكذا، سارت الأمور حتى اختفى الجميع من المشهد. لا أحد يعرف لماذا اختفت الحافزية والحماسة والقدرة والتنظيم. لا أحد يعرف كيف ولماذا ولأيّ سبب انفضّ القوم، علماً بأن لا تغيير واحداً حصل. لا الأحوال الاقتصادية تحسّنت، ولا السلطة استقالت، ولا النظام سقط بيد الثوار، ولا الفقر هرب من تلك الأحياء، ولا الزعماء باعوا قصورهم وبنوا مكانها مصانع، ولا ميشال عون سقط ولا سلاح حزب الله نزع… بل عاد سعد الحريري ليؤلّف الحكومة!

طوال أسابيع من بعد 17 تشرين، كان كثيرون من ناشطي المدينة، وفاعلياتها، يسمعون ويدققون في معطيات حول التدخلات الخارجية في نشاط المدينة. لكن القائمين على «الثورة المدنية» كانوا يرفضون أصل النقاش. هم قرروا من طرف واحد أن الحقيقة محصورة في أن هناك غضباً بسبب الفقر وغياب الديموقراطية، وأن الثورة مصانة وستُستأنَف في أقرب وقت ممكن. والأكثر غرابة كان في أن أحداً من قوى السلطة أو قوى الشارع لم يكلف نفسه عناء إجراء حوار ولو جانبي بين المتخاصمين أو المشتبكين. وظلت المواقف على حالها إلى أن قام فجأة، وقبل نحو ثلاثة أسابيع، موفدون من سفارات أميركا وبريطانيا وفرنسا والاتحاد الأوروبي، بجولات وحوارات مع مسؤولين في الدولة ومع قادة في جميع الأجهزة العسكرية والأمنية، يحملون رسالة واحدة واضحة ومختصرة: الأوضاع الاقتصادية الصعبة، وعدم تأليف الحكومة سيقودان حتماً الى عودة الاحتجاجات الشعبية، ونحن نطلب منكم عدم اللجوء إلى أي إجراءات قمعية ضد المتظاهرين، وعدم منعهم من قول ما يريدون والقيام بما يريدون، ومن يمارس القمع سيكون محل متابعة منا، وسيدفع الثمن خارج لبنان إن لم يدفعه داخله.

لم تكن الرسالة غامضة على الإطلاق. بل إن الجهات الأمنية والعسكرية حاولت معاينتها ميدانياً. جرت محاولة لمطابقة التقدير الغربي مع المعطيات الميدانية لديها. والحيرة التي سادت لدى هذه أن غالبيتها لديها ناسها في الشارع، سواء على شكل مناصرين لقوى سياسية، أو على شكل مجموعات لا تزال ــــ نعم لا تزال ــــ تعمل بإمرة ضباط أمنيين من هذا الجهاز أو ذاك. وكانت النتيجة عدم توقّع أمر كبير، إلى أن انطلقت الاحتجاجات قبل أيام في طرابلس، وسط محاولات حثيثة لنقلها الى مناطق أخرى، وخصوصاً في بيروت والبقاع الأوسط وطريق الجنوب وصولاً إلى صيدا.

لنضع جانباً كل الحديث السياسي المملّ عن السلطة ودورها. هذه سلطة لم ولن يخرج منها الخير. ولنضع جانباً، كل الكلام المطابق لكلام السلطة والصادر عن قوى في السلطة انتقلت الى المعارضة. وهي قوى لم ولن يخرج منها إلا الشر كما فعلت طوال أربعة عقود. ومهما تلونت ورسمت لنفسها صورة جميلة، فهي ستظل المرآة تعكس روحها البشعة.

أيضاً، لنضع جانباً الضغوط الخارجية لأجل تأليف حكومة تسير في البرنامج الدولي (الذي عرضته فرنسا) للحل في لبنان. وهو برنامج يقضي بأن يكون لبنان تحت انتداب جديد ولو بصورة مقنّعة من خلال استخدام جماعات الـ«ان جي أوز» كقناع لتولّي إدارة الدولة، وهو انتداب يستهدف الإمساك بمقدرات لبنان القائمة أو المتوقعة، كما يستهدف جرّه الى ضفة المحور العامل برعاية أميركا وأوروبا وإسرائيل والسعودية، ما يوجب التخلص من المقاومة.

ولنضع جانباً الآثار الطبيعية للأزمة الاقتصادية والاجتماعية على أهالي هذه المدينة المهملة بصورة لم تعرفها منطقة لبنانية سابقاً، بما في ذلك «خِسّة» أثرياء المدينة الذين لا يغادرون مربع الصدقة والإحسان ولا يبنون مصنعاً واحداً يشغّل الآلاف من شباب المدينة وصباياها، ويعيل أهلهم.

 

ما يحصل اليوم يشير إلى أن لبنان مقبل على تحدّي اختبار الفوضى المناطقية التي قد يكون هناك من يحلم بتحويلها الى لحظة الاستغناء عن أي صلة بالدولة

 

 

لكن، هل من مجال لطرح الأسئلة التي يهرب منها الجميع؟

ترى، كيف لا يمكن لسياسي في لبنان، أو إعلامي، أو أمني، أن يقدّم خريطة واقعية تشرح طبيعة ما يجري في عاصمة الشمال؟ من هم هؤلاء المحتجّون؟ ومن هم الناشطون بينهم؟ وكيف يتمّ تنظيم تحرّكهم، ومن يقرّر هذه الوجهة من تنفيس الغضب من تلك، ومن يصرف الأموال المطلوبة (حتى لو كانت مئة ألف ليرة فقط)، ومن يقرر إعادة التركيز الإعلامي على هذه الزاوية أو تلك، ومن هو العبقري الذي يرفع الشعارات الكبيرة ضد ميشال عون وحزب الله، ثم يرمي القنابل على فرع المعلومات المحسوب على سعد الحريري الذي لا يزال خصماً أساسياً لميشال عون، ورابطاً للنزاع مع حزب الله؟ وكيف يمكن حصر الاحتجاجات بأهداف موضعية تقول بضرب كل المراكز التي تخص فكرة الدولة، قوى الأمن والسرايا والبلدية ومؤسسات أخرى موجودة على لائحة الأهداف؟ وهل نريد تكرار تجربة العام الماضي، حيث نعود من جديد الى الأسئلة البديهية عمّن يقود الناس وعن أي إطار ينظّم تحركاتهم، أم لا يزال السؤال حول ذلك محرّماً؟ ثم من هو الذي قرر أن كلّ سياسيي المدينة هم من الشياطين، ما عدا هذا أو ذاك من الذين يصادف ــــ يصادف فقط ــــ أنهم من المجموعة التي ترى أن إسقاط ميشال عون ونزع سلاح المقاومة هو الهدف المركزي الوحيد؟

هذه المرة، لا أحد يحتاج الى درس في معرفة الوقائع الاجتماعية الصعبة لهذه المدينة، ولا أحد يحتاج الى شروحات حول الحاجة الى انتفاضة أو حتى انقلاب على هذه السلطة المقيتة. لكنْ هناك حاجة إلى عدم التساهل مع الذين يحاولون اليوم، خطف المدينة وأخذها الى مواجهة نفسها فقط، إذ لا نتيجة عامّة لأي حركة من دون مشروع سياسي واضح. ولن تكون النتيجة سوى المزيد من العنف العدمي، الذي لا يشبه حتى دراما المنتحرين غضباً. وما يحصل اليوم يشير، وفق كل الحسابات العقلية، إلى أن لبنان مقبل على تحدّي اختبار الفوضى المناطقية التي قد يكون هناك من يحلم بتحويلها الى لحظة الاستغناء عن أي صلة بالدولة، وعندها سنبدأ نسمع عن العصيان المدني الشامل، وعن الحكومة المحلية الجديدة، وعن الإدارة المستقلة أو الموازية لمرافق الدولة، ومن ثم سنجد من يخرج أرنب الأمن الذاتي وهنا الطامّة الكبرى…

النتيجة أن طرابلس مخطوفة الآن، كما كانت مخطوفة منذ أربعين سنة على الأقل. رهينة يتبادلها الخاطفون. مخطوفة من سلطات تعاقبت على حرمانها من كل شيء. ومن برلمانات وبرلمانيين فاشلين. ومن زعامات لا ترتقي الى مقام فتوة الأحياء. بل تنتظر يوم الانتخاب لتجدّد لذاتها عبر المال، مخطوفة من أمراء المحاور وأولياء الدم والمسجونين، ومن جيش مرتزقة ينتشر اليوم كالفطر باسم المجتمع المدني، وجلّهم من «صبية السفارات» على أنواعها. ومخطوفة من بقايا «الثورة السورية المجيدة» الذين لا يزالون الى الأمس يعطون الدروس في كيفية العسكرة والانتقال الى مستوى جديد من «العنف الثوري»…

طرابلس فيها مساكين، يقوم دهاة من أهل النظام نفسه بتوجبه غضبهم الى حيث لن يكون هناك تغيير ولا ما يحزنون. والمدينة ستظلّ مسكونة برهاب الفوضى الأمنية الكبيرة، وخصوصاً مع قوى وأجهزة أمنية وعسكرية لا تعرف إلا الاستغلال أو الإفراط في استخدام القوة. وفي كل يوم يخضع فيه العاقلون لابتزاز المجانين، سترتفع الكلفة… قبل أن يخرج من يحرّر هذه المدينة ويعيدها الى أهلها الحقيقيين!