إذا كان ما ورد في خطاب القسم الذي تلاه قبل يومين الرئيس اللبناني المنتخب العماد ميشال عون، مطابقاً في مفاصل عديدة لتوجُّهات قوى 14 آذار كما يرى بعضها، فالخطاب ذاته يضع على عاتق الرئيس الثالث عشر للجمهورية الحائرة بانقساماتها، المحاصرة بنيران المنطقة، عبئاً مضاعفاً لمرات، بعدما أثخن شغور قصر بعبدا مؤسسات الدولة جروحاً غائرة… وضرب «الشراكة الوطنية» بعدوى العجز.
بعد سنتين ونصف سنة من المماحكات والتعطيل والهواجس والمخاوف، دخل الجنرال قصر الرئاسة من بوابة البرلمان، رافعاً وثيقة الوفاق الوطني والشراكة شعاراً لعهد يريده أنصاره «ولادة جديدة للجمهورية»، ويراه آخرون رافعة إلزامية للدولة، لتفادي انهيارها الشامل، وسط حرائق المنطقة.
فريق ثالث ورابع وخامس… كلٌّ يحتسب نتائج انتخاب الرئيس بانعكاسه على إعادة إنتاج اصطفاف سياسي، لا بد أن يواكب مرحلة التحضير للانتخابات النيابية العام المقبل. وهذه صيغة لبنانية بامتياز لمحاصصة في مقاعد البرلمان وكتله، ستلي ولادة الحكومة الجديدة التي يُفترض أن يشكّلها رئيس الوزراء السابق سعد الحريري، وتشرف على الاقتراع النيابي، في ظل قانون جديد للانتخاب، بدا لفترة طويلة أن الاتفاق عليه يشبه «معجزة».
لم يتطلّب وصول العماد ميشال عون إلى قصر الرئاسة معجزة مماثلة، بعدما أيد ترشُّحه رئيس «القوات اللبنانية» سمير جعجع، والحريري، بصدمة أشاعت مناخ انقسام جديد في صفوف 14 آذار، وسدَّد «حزب الله» ما يُعتبر ديْناً عليه للجنرال الذي لم يفرّط لسنوات طويلة بمذكرة التفاهم مع الحزب. وبالاقتراع لعون في الجلسة الماراثونية المريرة، أسقط «حزب الله» أو اضطُر لإسقاط كل الهواجس حول مدى التزامه وعوده.
أما مَن انتصر ومَن هُزم، فمسألة أخرى، لأن المعيار الجدّي في تقويم أداء العهد الرئاسي الجديد، سيكون سعي عون إلى تطبيق ما ورد في خطاب القسم، وقد لا تختلف عليه غالبية اللبنانيين.
غابت بعد الاقتراع تعابير مثل الشارع المسيحي، و «استعادة المسيحيين دورهم» في مؤسسات الدولة، كما غابت قبله دعوات متكرّرة إلى مجلس تأسيسي «يُنقذ» الجمهورية بنظام جديد يتخلى عن اتفاق الطائف. وبين ابتهاج بـ «عودة الحق إلى أصحابه» كما ردّد لبنانيون، وفرح إيران بفوز عون الذي اعتبرته «انتصاراً للمقاومة الإسلامية»، لا بد أن يكون السؤال عن ماهية المعادلة التي ترضي طائفة وحزباً، على تخوم مفهوم «الشراكة» دستورياً.
والسؤال كذلك هو قدرة العهد الرئاسي الجديد على المزاوجة بين ما قد يعتبره «حزب الله» ديْناً على عون، والسعي إلى شراكة لا تتجاهل إبعاد لبنان عن «الصراعات الخارجية» و «النيران المشتعلة في المنطقة»… فهل يمكن إبعاده عنها فيما قوّة أساسية يُفترض أن تكون ممثّلة في مجلس الوزراء، ما زالت تقاتل في سورية، وتدير معارك؟
هل يمكن الرئيس اللبناني المنتخب الذي تعهّد «سياسة خارجية مستقلة تقوم على المصلحة العليا» للبلد، أن يقنع «حزب الله» بأن منع تمدُّد شرارات الحرب من سورية، يقتضي انكفاءه من ساحات القتال، وبأن تلك السياسة تُلزمه أولاً بعدم التدخُّل في شؤون اليمن والعراق والبحرين؟
… أم أن الحزب لن يقوى على رؤية عون في القصر، غير عون الحليف الشريك في التفاهم الذي ضمِن للمقاومة غطاءً مسيحياً- في سنوات عسيرة- حال دون وصمها بالمذهبية؟
يصعب تصوّر تبديل سريع في نهج «حزب الله» الواثق بـ «انتصار» آخر في سورية «لمنع التكفيريين من الوصول إلينا» في لبنان. في المقابل، لن يكون سهلاً في بداية عهد عون افتراض إصراره على حياد عاجل إزاء صراعات الخارج، فذاك يعني صداماً حتمياً بين منطق الدولة ومنطق الحزب ومعاركه الاستباقية وراء الحدود.
قبل الانتخاب الماراثوني، ربما كان الهدف البعيد لبعض القوى تفكيك تحالف الجنرال و «حزب الله»، فالأول رئيساً للبنان لم يعد زعيم تيار، وإنقاذ البلد لا يمكن أن يستقيم مع حسابات تسديد «ديون» لهذا الفريق أو ذاك. أما الفتور الأميركي إزاء إعلان فوز عون بالرئاسة- على نقيض الحماسة الإيرانية- فلا بد أن يستوقف كثيرين، لا سيما العهد الجديد، إذ لم يفت واشنطن التذكير بدعم «حزب الله» الجنرال، وبأنها ما زالت تعتبر الحزب «منظمة إرهابية».
يطمح الرئيس العتيد إلى نهضة اقتصادية، تتطلب حتماً استقراراً سياسياً وأمنياً، ومعه شراكات خليجية لن تعود إلا بوقف استهداف الدور الخليجي والسعودي خصوصاً، ووقف التصعيد في لبنان ضد المملكة، بالتناغم مع التصعيد الإيراني.
تحييد لبنان هو المدخل- إلا مع إسرائيل- ومهمات العهد الجديد كثيرة وعسيرة.