اتفق الأميركيون والروس في شأن سورية، لكن أحداً لا يعرف ما هي حقيقة نياتهم. إذ إن «تعاونهم» يركّز على عمليات مشتركة ضد تنظيم «الدولة الإسلامية» (داعش) و»جبهة فتح الشام» («النُصرة» سابقاً). أي أنهم رضخوا، في نهاية المطاف، للأمر الواقع التي دبّره نظام بشار الأسد مع الإيرانيين باجتذاب الإرهابيين واختزال الأزمة في مواجهة مع الإرهاب قبل أن تكون صراعاً بين شعب ونظام إجرامي متسلط. ما طبع «داعش»، منذ بداياته، أنه استهدف فصائل المعارضة، تحديداً «الجيش السوري الحرّ»، ونال دعم الأسد وإيران ليخترق المناطق التي لم تكن لهما سيطرة عليها. وما طبع «النصرة» أنها هي التي خاضت أهم معارك المعارضة ومكّنتها من الحفاظ على التوازن في المعادلة الميدانية مع النظام قبل التدخل الروسي، لكن غباء زعيم «النصرة» بمبايعته زعيم «القاعدة» ومجاملته إيران لأنها تقدّم تسهيلات إلى «رفاقه» انكشف الآن في الإساءة التي تسبّب بها لمَن حاربوا إلى جانبه ولمَن انخرطوا في «جبهته» وهم لا يعرفون شيئاً عن «القاعدة» ولا يكترثون لها.
كان من الطبيعي أن يلقى الاتفاق الأميركي – الروسي ترحيب معظم العواصم المعنية، فالدولتان الكُبريان مستحوذتان على الملف وتديران الأزمة، ثم أن العنوان أي «الهدنة»، والهدف أي «الحل السياسي»، لا يثيران اعتراضات مبدئية. غير أن الثغرة الكبيرة في هذا الاتفاق وفي كل ما سبقه من تفاهمات، كما في مقاربة الأميركيين والروس للأزمة عموماً، تتمثّل في صمتهم المستديم حيال وجود الميليشيات الإيرانية التي تضمّ آلافاً من «الحرس الثوري» وعشرات آلاف المقاتلين الغرباء من جنسيات شتّى. فواشنطن التي تولّت دائماً مهمة ضبط المعارضة، وموسكو التي تدخّلت لإنقاذ النظام، تجاهلتا هذا التدخّل الإيراني كأنه غير موجود على رغم أنه ماضٍ في زرع وقائع من شأنها أن تفسد أي حلول مقبلة. لذلك اعتبرت طهران أن الدولتين الكُبريين مؤيدتان لدورها في سورية، حتى أنها طالبت بـ «آلية مراقبة شاملة» لوقف إطلاق النار، ودعت خصوصاً إلى «مراقبة الحدود لمنع وصول إرهابيين جدد»، مع أن طائراتها تحمل يومياً المزيد من مرتزقتها لرفد وجودها الذي بات احتلالياً بكل معنى الكلمة.
هذان الصمت والتجاهل هما ما يطرح السؤال المشروع عن حقيقة نيات واشنطن وموسكو، لأن التستّر على دور إيران يقتصر على احتمالَين لا ثالث لهما: تأجيل أميركا وروسيا أي مواجهة مع إيران إلى حين الاقتراب من إنهاء الصراع السوري، أو اعترافهما المسبق لإيران بأن تكون «شريكة» ولها كلمة في تحديد مستقبل سورية. وفي الحالين يكون الأميركيون والروس غير جادّين في هدنة وقف الأعمال القتالية، ولا في السعي إلى حل سياسي. فوجود إيران لا يختلف عن وجود الأسد، ولكليهما مصلحة في إحباط أي حل على الإطلاق، ويبدو أنهما يراهنان الآن على البنود السرّية التي انطوى عليها الاتفاق الأخير، لأنه لبّى شروط الروس وقدّم فيه الأميركيون تنازلات قد تؤدّي عملياً إلى إضعاف المعارضة «المعتدلة» في سياق القضاء على المتشدّدين. وفي مختلف الأحوال، ليس متوقعاً أن يختلف دور الميليشيات الإيرانية في سورية عما تفعله ميليشيات «الحشد الشعبي» في العراق أو ميليشيا الحوثيين في اليمن، إذ إنها تعرقل قيام حكم متوازن وتضع القوى الدولية المعنية (وليس السوريين أو العراقيين أو اليمنيين وحدهم) أمام خيارين لا يحقّقان استقراراً داخلياً أو إقليمياً: إما خضوع السكان كافة لتسلّطها، أي لتسلّط إيران… أو التقسيم.
هل التعرّف إلى النيات الحقيقية لأميركا وروسيا متاح في الاتفاق الأخير؟ لا مجال لذلك، أولاً لأن إبقاءه سريّاً يؤكّد أنهما مصممان على إخفاء ما يخططان لسورية بل للمنطقة كما يؤكّد غموض الأهداف وهشاشة الوسائل، وثانياً لأن إبقاءه اختبارياً يعني أن الجانب الروسي لم يوفّر تعهّدات لالتزامه، وثالثاً لأن إبقاءه من دون ضمانات وآليات للمراقبة والمحاسبة يجعل الهدنة تحت رحمة الأسديين والإيرانيين كونهم الأعداء الطبيعيين لأي اتفاق يُراد له أن يمهّد لإنهاء الصراع. وبما أنه الاتفاق الأول من نوعه منذ انهيار الاتحاد السوفياتي للتعاون بين الدولتين في شأن بلد ثالث، فإن مضمونه (استناداً إلى لهجة المبعوث الأميركي الخاص مايكل راتني في رسالته إلى الفصائل) يوحي بخلل في المعادلة، فروسيا موجودة في الجو وعلى الأرض ولها مع النظام وإيران علاقة تلازم وتواطؤ فيما طوّرت مصالحتها مع تركيا إلى تنسيق، أما أميركا فبينها وبين المعارضة والدول الداعمة لها، علاقة ملتبسة يتزاحم فيها المع والضدّ. وهذا ما جعل غالبية المراقبين تعتبر أن الاتفاق انتصار للشروط الروسية التي كانت على الدوام معاديةً للشعب السوري.
لعل مدير وكالة الاستخبارات الأميركية (سي آي اي) جون برينان يقدّم شيئاً من الإضاح لخلفية التفكير المشترك لواشنطن وموسكو، طالما أنه أطلق إشارتين خلال أقل من شهرين إلى أن سورية والعراق لن يعودا جغرافياً إلى ما كانا عليه في السابق. في الأولى (30 تموز- يوليو) قال خلال مشاركته في منتدى أسبن الأمني السنوي «لا أعرف ما إذا كان يمكن أو لا يمكن عودة سورية موحّدة مرة أخرى»، ومجرّد التشكيك هنا يعني أنه، بحكم موقعه واطلاعه، «يعرف» الكثير. أما في المرّة الثانية (10 أيلول – سبتمبر) فتحدّث في مركز بحثي نيويوركي عن «احتمالات تشير إلى إمكان انقسام البلدَين»، وأورد الأسباب من «إراقة الكثير من الدماء» و «الكمّ الهائل من الدمار» و «الانقسام الطائفي» إلى تعذّر «إنشاء حكومة مركزية قادرة على الإدارة في شكل عادل في كلا البلدَين». ومما قال إن أميركا «لا تريد حكومات مركزية استبدادية» في سورية والعراق، لأن المشكلات التي شهدتها المنطقة كانت «بسبب حكومات كهذه».
لا بدّ أن استخلاصات استخبارية مستندة فقط إلى ظواهر معروفة تنطوي على الكثير من غير المعروف، وبالتالي فهي تجعل الاتفاق الأميركي – الروسي ورقةً هزيلةً ينتظر طرفاها مزيداً من التعفّن في الوضع قبل أن يباشرا البحث في الخيارات النهائية، وفقاً لمصالحهما أولاً. وعلى افتراض أن الدولتين الكُبريين لا تؤيدان التقسيم وليستا متأكدتين من نجاحه في إنهاء الصراعات وعدم استيلاده صراعات أخرى مديدة، إلا أنهما لم تُظهرا أي إرادة في هذا المنحى. فلا روسيا فعلت شيئاً لوقف مخططات حليفيها تغليباً لخيار التقسيم في سورية، ولا يبدو أن التفاهم الأميركي – الإيراني في شأن العراق حسم مسألة وحدة البلد بل أبقاها نهباً لنزوات الإيرانيين. وباستثناء مواقف معلنة ومعبّرة عن الطموحات القومية لرئيس إقليم كردستان العراق إذ قال سابقاً إن الوقت حان لإعادة النظر في خرائط المنطقة وأشار أخيراً إلى أن «التقسيم في سورية قائم»، فإن الأطراف الأخرى تلزم صمتاً بالغ السلبية تاركةً الموضوع للتداول الأميركي والروسي.
عندما تكون خلفية المشهد منشغلةً إلى أقصى حدّ بالمنافسات على مناطق النفوذ لا عجب إذا قدّم المشهد نفسه وقائع لا يمكن التعويل عليها، ومنها هذا الاتفاق الأميركي – الروسي الذي يبقى مجرد رهان على هدنة وليس على حل للصراع. فالوقت الذي استهلك لإنجازه كلّف بضعة آلاف من الضحايا وأضعافهم من المصابين وعشرات المستشفيات التي دمّرها القصف، ولم تكن الخلافات فيه على بنود تخص سورية والسوريين بل على شروط التنسيق والتعاون بين الدولتين وما ترضى به الخارجية الأميركية ولا يرضى به البنتاغون ولا يستطيع البيت الأبيض حسمه. وفي النهاية، جاء الاتفاق لمصلحة موسكو، ونظاما الأسد وإيران يعتبران أنه لمصلحتهما أيضاً.