ما بين القاهرة والدوحة وتل أبيب، جالت الصيغة الاخيرة لمشروع التفاهم على وقف النار الذي سعى إليه الرباعي المخابراتي ومعه الديبلوماسية القطرية، منذ ان أطلقت نواته من باريس قبل ثلاثة أسابيع. وفي الوقت الذي كانت البعثة الاميركية في مجلس الأمن الدولي تنتظر الضوء الأخضر لطرح المشروع للتصويت، كشف ديبلوماسي غربي رفيع عن فقدان «المفتاح السرّي» الاميركي المؤدي الى وقف النار. وعليه، ما الذي يقود إلى هذه الرواية؟
لم تكن الأجواء التي أوحى بها قياديون من «حماس» عن قبول بالعرض الدولي الجديد «الممتد» لوقف النار في غزة «من فراغ» على قاعدة ان ليس هناك «دخان من دون نار». فما أن تسرّبت هذه التصريحات التي نُسبت الى أحد قياديي «حماس» من دون التعريف بهويته، وإن كان من قياديي الخارج أم الداخل، تلاحقت المواقف في الساعات الاخيرة التي بشّرت بهذا التفاهم الذي أشرف على صوغه في اللحظات الاخيرة رئيس وكالة المخابرات المركزية الأميركية وليام بيرنز في الدوحة، التي استضافت لقاءً جمعه برئيس جهاز الموساد الاسرائيلي دافيد بارنياع الذي قبل دعوة أميركية طارئة لملاقاته فيها، بعدما غاب عن اجتماعات القاهرة التي عُقدت على مدى يومين متتاليين في حضور بيرنز ورئيس المخابرات العامة المصرية عباس كامل وبمشاركة وفدين قطري رفيع المستوى وآخر من حركة «حماس»، انتهت الى تعهّد أميركي بتوفير جواب اسرائيلي ايجابي مما هو مطروح من صيغ توقف البتّ بها عند قضايا شكلية وجوهرية في آن.
وإن كانت العقدة الأصعب ان يحصل الجانب الاسرائيلي على لائحة موثقة بالرهائن العسكريين والمدنيين الذين ستطلقهم «حماس» ومعها بقية الفصائل التي تحتفظ بعدد منهم، فإنّ «حماس» التي أبلغت الى المجتمعين صعوبة هذه المهمّة، وخصوصاً لجهة عملية الفرز المطلوبة بين الأحياء منهم والقتلى نتيجة العمليات العسكرية الإسرائيلية التي اودت بحياة عدد منهم، حالت دون توفير ما يرضي الجانب الإسرائيلي. وجاء إصرارها على الإفراج عن بعض القياديين الفلسطينيين من «لائحة الرموز» المعتقلين في السجون الاسرائيلية والمساواة في البدائل من المعتقلين المفرج عنهم لقاء كل رهينة بالتساوي بين الأحياء والأموات ليزيد في الطين بلّة.
ولما فُقدت المخارج لفكفكة أي من هذه العِقَد المستعصية التي ترضي على الأقل الطرفين الاسرائيلي والفلسطيني، ثبت بالوجه الشرعي، انّ المتعاطين بهذا الملف من مصريين وأميركيين وقطريين لم يتوصلوا بعد الى تصور واحد يحاكي طريقة ادارة قطاع غزة بدءاً من «اليوم التالي» للحرب، لا على مستوى إسناد المهمّة الى السلطة الفلسطينية ولا لجهة تشكيل إدارة خاصة من أبناء القطاع تستند الى العشائر ومجموعات من الحياديين غير الملتزمين حزبياً. وهو ما ادّى إلى فرملة الخطوات الايجابية التي كان من الممكن الإعلان عنها، وتعقّدت الأمور الى درجة بالغة الخطورة. وخصوصاً انّ بعض الاقتراحات التي تقدّم بها اطراف آخرون، من بينهم الفرنسيون والبريطانيون، لم تصل الى خواتيمها، بعدما توقف البحث في أروقة الامم المتحدة حول شكل ومضمون مشروع القرار الاميركي الذي خضع لتعديلات بقيت شكلية اكثر من اربع مرات متتالية، عند إصرار معدّيه على وقف نار «موقت» وليس «ثابتاً» كما ارادته المجموعة العربية ومعها اصدقاء واشنطن ايضاً، في ظل التهديد الروسي ـ الصيني باستخدام حق النقض «الفيتو» إن مضت واشنطن في طرحه على مجلس الأمن للتصويت بالصيغة المرفوضة.
عند هذه الصورة المتشابكة التي عطّلتها الشروط والشروط المضادة، برزت بشائر الحل تظهر من خلال اقتراح ما زال يتيماً لم يتبنّاه أحد، وهو يتحدث عن وقف نار «ممتد» يجب ان يُؤسّس له بمجموعة من الخطوات التمهيدية التي تبدأ بوقف النار وعمليات تبادل لاطلاق الرهائن والاسرى، في موازاة عودة تدريجية للنازحين واللاجئين الى مناطق محدودة يمكن تحديدها قياساً على حجم الدمار الذي يستحيل معه عودة اي من النازحين الى مناطق دُمّرت وجُرفت بطريقة لا يمكن العيش فيها تحت اي ظرف، فيما هناك مناطق أخرى يمكن العودة إليها ولو بصورة محدودة، تعطي املاً بأنّ العودة الفلسطينية ممكنة الى بقية المناطق بعد إعادة اعمارها وتوفير مقومات العيش فيها.
عند هذه المحطة تعهّد ممثلو الاطراف الاربعة المعنيين بالمحادثات المباشرة الذين اجتمعوا في القاهرة، بالسعي الى وضع خريطة طريق تترجم هذه «الآلية المعقّدة»، فجاء غياب الجانب الاسرائيلي عن مجموعة اللقاءات ليعوق اي تفاهم ولم تنفع التنازلات التي وعد بها الجانبان المصري والقطري لمجرد ما تبلّغا به من الجانب الاميركي من انّ التصلّب الاسرائيلي ما زال قائماً، وأنّ اي وعد او إجراء مهما كان حجمه، لم يلغ بعد التوجّه الاسرائيلي الى اجتياح مدينة رفح أياً كانت النتائج المترتبة عليه. مع التمني بأن تساهم القوى جميعها في تسهيل عملية نقل النازحين منها الى وسط القطاع وشماله، وربما الى البقعة الساحلية للمحافظة وجزء من منطقة سيناء المحاذية لمعبر رفح ومحور فيلادلفيا، وهو ما ادّى الى رفض مصري وفلسطيني غير قابل للجدل تحت اي ظرف من الظروف.
وعليه، فقد نجح المصريون والقطريون في إحراج الجانب الاميركي لمجرد تذكيره بتعهّداته السابقة برفض اي إجراء يؤدي الى «ترانسفير فلسطيني» خارج القطاع، وخصوصاً انّ لا منفذ في حال حصوله بالإكراه سوى الى الاراضي المصرية أو البحر. ذلك انّ اي خطوة من هذا النوع ستسهّل على صقور حكومة الحرب الاسرائيلية عملية انتقالهم أحياء او أموات الى الجانب المصري من الحدود، وهو ما اعتبرته القاهرة اعلاناً للحرب وتراجعاً خطيراً وغير مسبوق على مقتضيات اتفاقية «كمب ديفيد». كما انّه إجراء قد يُنهي ما قالت به من ضمانات متبادلة وترتيبات على جانبي الحدود احترمها الجانب المصري من طرف واحد.
والى هذه الأسباب التي حالت دون التوصل الى اتفاق يمكن البناء عليه لاحقاً، بُنيت الرهانات على المسعي الاميركي الذي جاء برئيس جهاز الموساد دافيد بارنياع الى الدوحة في ظل اقتراح اميركي بلعب «الورقة الاخيرة» في شأن هذا الاتفاق. لكن النتائج لم تأتِ حتى اللحظة بأي خطوة ايجابية، وتراجعت أجواء التفاؤل في اللحظات الاخيرة، وانقلبت من سيئ الى أسوأ. وتراجعت الأطراف جميعها عن تعهدات كانت قد عُقدت لتسهيل التفاهم على خطوات ولو محدودة، يمكن ان تخفف من معاناة المدنيين في شهر رمضان، وفي انتظار ان تأتي التدابير الاميركية ببناء الرصيف المنتظر على شاطئ غزة لنقل المساعدات بالحجم الذي يحتاجه مليونا مهجر ونازح فلسطيني، بعدما فقدوا نحو 32 الف شهيد واكثر من 110 آلاف جريح ومعوق، وبوجود نحو 10 آلاف مفقود ما زالوا تحت الأنقاض، عدا عن المعتقلين الذين تجاوز عددهم في القطاع الـ 7 آلاف، مع ضرورة التدقيق في انتظار الفرز الصعب بين لوائح المعتقلين والمفقودين.
عند هذه الصورة المعقّدة لما آلت إليه التطورات، عبّر ديبلوماسي غربي امام زواره، عن أنّ مهمّة التهدئة في غزة باتت مستحيلة راهناً، بعدما فقد الاميركيون «المفتاح السرّي» الذي يمكن اللجوء إليه للجم الاسرائيليين في اتجاه وقف للنار، سواءً قيل انّه «موقت» او «دائم» او «ممتد»، فلا نفع لمثل هذه الأوصاف ولا تمييز بينها. من دون ان ننسى انعكاسات كل ذلك على الجبهة الجنوبية اللبنانية، وما يمكن ان تشهده من ردّات فعل تترجم فقدان البوصلة نحو التهدئة في غزة، لتزيد من تعقيدات الاستحقاقات اللبنانية كافة.