لم يقيَّض لقرار الهدنة الخاص بسورية أن ينعم بتطبيق كامل، وما كان ذلك مفاجئاً، إذ إن متن القرار حمل بنوداً تسمح بخرقه من مدخل الاستثناءات التي ألحقت به، هكذا رعى الطرفان الروسي والأميركي قراراً استنسابياً، وربما كان الاستنساب هو الأفضل للسياسي الروسي الذي دخل بقوة على خط الانفجار السوري، وربما لم يشعر الطرف الأميركي بأن الثغرات المتروكة في مواد القرار الدولي، تشوّش على تدخّله من بُعْد في الشأن السوري. على ذلك، لكأن قرار الهدنة حصيلة تفاهم على تسوية بين نظرتي المهاجم الروسي والمراقب الأميركي، فالأول يريد استثمار هجومه الذي بدأه قبل أشهر حتى يلامس الأهداف المرسومة له، والثاني يريد توظيف «رعايته» التطورات السياسية، بما لا يدفعه إلى الدخول ذاتياً، على خطوطها الملتهبة. التسوية أو الهدنة، امتلكت عوامل فرضها على النظام وعلى فصائل مقاتلة كثيرة، بمقدار ما ظلت محتفظة بفرص استثمار أيامها المحددة بأسبوعين، في تحسين شروط المهاجم الروسي والسوري على الأرض، وفي إبقاء المبادرة الهجومية العسكرية والسياسية رهن قرار هذين الحليفين.
هذه الحقيقة تفترض مراجعة دفاتر وحسابات الربح والخسارة التي طاولت كل المتدخلين في الشأن السوري، وفي كل مراجعة قراءة أولية مستقبلية لما يمكن أن تكون عليه الأوضاع السياسية والميدانية، وإعادة تحديد للسياسات المناسبة التي من شأنها أن تزيد من أرباح الرابحين، أو أن تحدِّد خسارة الخاسرين، وأن تبقي الباب مفتوحاً أمام سياسات تمنع الفوز الكامل لأطراف بعينها، لأن في ذلك خسارة كاملة لأطراف أخرى، ما يعكس ما بدا أنه معتمد حتى الآن من سياسات حيال سورية، تقضي بأن يكون الكل خاسراً ورابحاً في الوقت ذاته. معادلة الربح والخسارة للجميع، لا تعني منح المغانم السورية أو منعها بالعدل والقسطاس، بل تعني رسم وضبط الحدود التي لا يجب تجاوزها من الفريق الرابح، بحيث يظل الإجحاف في القسمة السياسية ممكناً ومبرراً وقابلاً لتسويغه والدفاع عنه.
في الحسابات المباشرة، ربح الطرف الروسي التعامل معه كلاعب أول في الميدان السوري، لذلك غابت الحساسية تجاه تدخله، وتراجعت أسئلة الشكوك والظنون حول أهدافه البعيدة، وصار مالكاً في الراهن، لمفاتيح مشاريع الحلول، لأن مدى حركته ومناورته توسّع إلى الحدود التي تبلغها طائراته الحربية. هو اعتراف بالدور الروسي في سورية إذاً، وهذا يجب أن يستدعي اعترافاً بالمصالح الروسية الحيوية في أماكن أخرى من العالم، منها ما يقع في جوار دولة الاتحاد الروسي، ومنها ما يقع داخلها، ومنها ما يوجد على بعد آلاف الأميال.
الطرف الأميركي من جهته، لا يبدو متضرراً من التقدم الروسي الموضعي في الديار السورية، فهو ما زال يحتفظ بنظرة تفوقه على أقرانه، لجهة إجازة الحلول النهائية، ولجهة فرض العمل العام على الأسلحة العاملة ضمن سورية، وعلى تلك الوافدة من خارجها. وللطرف الأميركي ما يقوله هنا، فهو الوحيد الذي ما زال قادراً على وقف التدخل التركي على الحدود الدولية المرسومة بينه وبين سورية، وهو إذ يتسامح بعبور الأفراد والأسلحة الخفيفة، فإنه ما زال ينبّه إلى مغبة الإقدام على اجتياز القوات النظامية التركية الحدود المشتركة، وهو لا يمل من التحذير والدعوة إلى ضبط النفس والسلام على الجانب التركي.
ينطبق الأمر ذاته على مجموعة من الدول العربية التي حاولت وتحاول، تزويد بعض الفصائل المناوئة للنظام بأسلحة دفاعية متطورة، هذه الدول تجد سياساتها في مواجهة «بالفيتو» الأميركي، وتظل طلباتها واقفة أمام سدّ منعه. هذه القدرة الأميركية العامة، ما زالت تشكل المظلة لكل مجريات الميدان السوري، وفيئها ما زال مطلوباً من كل من يسعى إلى اتقاء «شمس» التطورات المفاجئة اللاهبة.
في امتداد الربح الروسي المعلن المعجَّل، والربح الأميركي المضمر المؤجل، يجد النظام السوري نفسه رابحاً، ومعه حليفه الإيراني. النظامان هذان قطفا حتى الآن الفوز بنجاة بشار الأسد، هذا قطاف مشترك تحرص عليه إيران التي صار وجود الأسد جزءاً من أوراق مساومتها على نفوذها، ومن أوراقها أيضاً صرف عملة رحيل هذا الرئيس، في سوق صرف العملات والعمولات السياسية.
ثمة متضررون تراتبياً. سورية الكيان هي المستهدفة أولاً برعاية الهدنة المفتوحة على استئناف القتل، وبمهادنة النظام الذي جعل الاقتتال حزام إنقاذ لرأسه. الأمن القومي العربي العام، مستهدف ثانياً، وهذه خلاصة لا يحجبها التذرع بأحوال العرب الراهنة، فلقد دفعت البلدان العربية ثمن ضياع العراق، وفي صيغة خسارة عامة، وفي صيغة خسارة داخلية لكل بلد على حدة. هذا يعني ثالثاً، أن الوطنيات العربية وكياناتها مستهدفة في استقرارها وفي انسياب سياقاتها الحياتية اليومية. لعل في ذلك ما يفتح النقاش على مسائل بينية داخلية، تكون خلاصاتها مفتوحة على تحصين الوضع العربي، وعدم التلاعب به كورقة مساومة على طاولات المصالح الدولية والإقليمية.