يوحي مشروع الهدنة الذي يجري التباحث في شأنه في غزة بأنه يمكن أن يكون خطاً فاصلاً بين مرحلة وأخرى، إذا نجح الفرقاء الساعون إليه في الاتفاق النهائي عليه، لأن الشيطان يكمن في التفاصيل في مثل هذه الوضعية المعقدة التي بلغتها الحرب وتفرعاتها.
التسريبات التي تتناول بنود مشروع الهدنة، الذي وضع مسودته اجتماع باريس الرباعي الذي ضم رئيس وكالة الاستخبارات الأميركية وليام بيرنز، رئيس الوزراء وزير الخارجية القطري محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، مدير المخابرات المصرية اللواء عباس كامل ورئيس جهاز الـ»موساد» الإسرائيلي ديفيد برنيع، ومعه رئيس جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي (شاباك) رونين بار، تتضمن الكثير من التفاصيل التي يحتاج كل منها اتفاقاً بحد ذاته لوضعه موضع التنفيذ. وتستدعي هذه التفاصيل جملة انطباعات:
– إذا كانت الهدنة تشمل وقف إطلاق النار في القطاع… فإنها تؤشر أيضاً إلى ما هو أبعد من التفاهم على صفقة جديدة لتبادل الرهائن والأسرى بحيث تلحظ ترتيبات سياسية تتضمن رؤية لكيفية تحريك الحلول للقضية الفلسطينية على أساس الدولتين. وهذا يطلق عملية سياسية تفاوضية من المؤكد أنها ستطول. وربما كان ذلك وسيلة «إلهاء» للفرقاء بموازاة الترتيبات السياسية.
– بما أن الفسحة الزمنية المتوقعة للهدنة المفترضة تناهز الشهرين، يشكل وقف النار الذي تتضمنه مخرجاً لجميع الفرقاء المتدخلين في الأزمة الكبرى الناجمة عن حرب إسرائيل على غزة، لا سيما على الصعيد العسكري. فبالإضافة إلى أنها تعفي إيران وأذرعها من مواصلة مساندة غزة، سواء الحوثيين من اليمن، أو «المقاومة الإسلامية» في العراق وسوريا أو «حزب الله» في لبنان، فإنها تسمح لـ»حماس» والفصائل الأخرى التي تقاتل في القطاع بالتقاط الأنفاس مقابل الإجرام الإسرائيلي اللامتناهي. فالميليشيات الحليفة لطهران، التي رهنت وقف عملياتها العسكرية التي وضعتها في مواجهة الآلتين العسكريتين الإسرائيلية (في لبنان) والأميركية في البحر الأحمر وسوريا والعراق، بوقف العدوان الإسرائيلي على غزة يمكنها من جهتها أن تأخذ استراحة تفاوضية إذا أُنجِزت الصفقة على تبادل الرهائن والأسرى، وعلى هامش هذه الصفقة حول مواقعها في أي ترتيبات جديدة. وهذا يفترض عودة النشاط إلى التفاوض غير المباشر الإيراني الأميركي.
– ينتظر أن تترافق مع الهدنة (إذا ذُلِّلَت عقبات الشيطان) ووقف النار خلالها مع التهدئة في الضفة الغربية والقدس، بما يعني التسليم الأميركي بالترابط في المعالجات بين الضفة والقطاع، ما يقود إلى دور للسلطة الفلسطينية في ما سيواكب أو يعقب الهدنة، من خطوات سياسية. وإذا صحت التسريبات بأن مسودة الهدنة تشمل تصوراً أولياً لتوحيد السلطة الفلسطينية بقيام حكومة لـ»حماس» دورٌ مؤثرٌ فيها، وبتوزيع مواقع النفوذ، فإن ذلك يشكل نقلة نوعية على صعيد معالجة الخلافات الفلسطينية.
– إذا نجحت الهدنة في إعادة تكوين السلطة الفلسطينية، فإن هذا المسار لا بد من أن ينقل هذه العدوى بطريقة أو بأخرى، نحو إعادة تكوين السلطة في الدول التي سمح غياب السلطة المركزية فيها بفتح حلفاء إيران جبهاتها للمشاركة في الحرب تحت شعار «مساندة غزة»، لكن لأغراض إيرانية، ولا سيما في اليمن وفي لبنان. فهل يستفيد لبنان من ذلك، لمناسبة تحرك اللجنة الخماسية من أجل إنهاء الشغور الرئاسي، خصوصاً أن مقولة «إعادة تكوين السلطة» نشأت بفعل أزمته الداخلية وأبعادها المترامية الأطراف …إقليمياً؟
– الأهم أن انعكاس الهدنة على إعادة تكوين السلطات في عدد من الدول سيكون أشد تأثيراً في إسرائيل. فمقابل إعلان بنيامين نتنياهو أن في مسودة الصفقة ما هو «بناء لكن ما زالت هناك خلافات»، قال حليفه إيتامار بن غفير إن الموافقة على المسودة قد تنهي الحكومة… وهذا ما لا يريده.
في الخلاصة، قد تتسبب انعكاسات هذه الهدنة على تكوين السلطة في الدول المعنية بها، بإفشالها من أكثر من فريق من أطراف الحرب، جراء العجز عن تكييف أهدافه معها.