IMLebanon

مشوار في اتجاه جهنم

 

المناظرة الأولى، وربما الأكثر تأثيراً خصوصاً على استمالة الشريحة المترددة من الناخبين، جاءت معيبة وكارثية وأشبه بحلبة مصارعة بين مرشح الحزب الجمهوري الرئيس دونالد ترامب ومنافسه مرشح الحزب الديموقراطي جو بايدن.

المناظرة التي حفلت بالصراخ والاهانات بَدت للوهلة الاولى اقرب الى نمط الحياة السياسية اللبنانية، خصوصاً، وهو الاهم، ما كان الرئيس الاميركي قد أعلنه برفضه التعهّد بإجراء نقل سلمي للسلطة في حال هزيمته في الانتخابات. وهي حالة غير مألوفة في الحياة السياسية الغربية، وخصوصاً في الولايات المتحدة الاميركية. صحيح انّ ترامب عاد وتراجَع عن كلامه على مَضض بعد موجة الانتقادات العنيفة، لكن الفكرة ستبقى واردة في ذهنه في حال رسو النتائج على خسارته، وتحديداً في حال كان الفارق صغيراً.

 

لكن ما يختلف عن النمط المتّبع في الحياة السياسية اللبنانية، انّ الذهنية العامة السائدة متمسّكة بالمبدأ الديموقراطي وتداول السلطة وتغليب المصلحة العامة على الخاصة واحترام الدستور وروحيّته من دون التَشاطر على النصوص والاعراف المتّبعة.

 

لذلك، مثلاً، كان على رأس المنتقدين لكلام ترامب زعيم الغالبية الجمهورية في مجلس الشيوخ ميتش ماكونيل، وكان معه مشرّعون جمهوريون آخرون انبروا للدفاع عن نظام الحكم الدستوري وحمايته.

 

وغرّد ماكونيل على «تويتر» كاتباً: «سيتم تنصيب الفائز في الانتخابات، وسيكون هناك انتقال منظّم تماماً كما هي الحال كل 4 سنوات منذ العام 1792».

 

في الاستطلاعات السريعة التي حصلت عقب انتهاء المناظرة الاولى، جاءت النتائج لمصلحة بايدن بنسبة 60 مقابل 40.

 

أمّا الاستطلاعات العامة حيال الاقتراع فإنّ الفارق وصل في بعضها الى 9 نقاط لمصلحة بايدن، فيما تقلّصت شريحة المترددين الى ما دون الـ10 في المئة. وهو ما يعني انّ الصورة آخذة في التبلور أكثر فأكثر. في الواقع، إنّ اكثر ما أساء الى ترامب كانت فضيحة تهرّبه من دفع الضرائب حيث بَدا أسلوبه دفاعيّاً في هذا المجال. وهي نقطة ثانية يتميّز بها المفهوم الاميركي عن المفهوم السائد في بلادنا حيث السرقة والفساد ونهب المال العام هو القاعدة. وكان على هذه الطبقة السياسة اللبنانية ان تستقيل بأجمعها في أدنى ردة فِعل لها، بعد الكلام الذي أطلقه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حيال الخجل من هذه الطبقة الفاسدة. هو قال كلامه ويعرف جيداً من خلال موقع فرنسا المصرفي حجم أموال وسرقات معظم رجالات السلطة في لبنان.

 

المهم انّ ترامب، الذي بدأ يشعر بصعوبة المعركة الانتخابية، بدأ يفكر في طريقة تقييد سياسة خَلفه في حال اتجهت الامور الى غير مصلحته.

 

ويتردد في الاوساط الديبلوماسية انّ رجال ادارة ترامب يدرسون القيام بفرض عقوبات جديدة وقاسية تزيد من عزلة اقتصاد ايران، بحيث تستهدف من خلالها اكثر من 10 مصارف اضافة الى تصنيف القطاع المالي على انه محظور، كما ذكرت وكالة «بلومبرغ» الاميركية.

 

وهذا سيعني وضع حواجز وعقبات امام تعهد بايدن بالعودة الى العمل بالاتفاق النووي وزيادة الصعوبات على ايران التي تعاني أصلاً بشدة في قطاعها الاقتصادي. وهو ما يعني ضغطاً قد يطاول لبنان من خلال «حزب الله»، ما سيزيد الوضع تعقيداً وصعوبة خصوصاً انّ الفترة التي سيتطلّبها استكمال التعيينات في إدارة بايدن قد تمتدّ الى الربيع المقبل، هذا اذا سار كل شيء من دون حصول مفاجآت غير محسوبة.

 

لكنّ المشكلة ان لبنان يعاني بشدة بسبب اقتصاد يكاد يلفظ أنفاسه وتقلّص القدرة المالية للدولة اللبنانية وللمصرف المركزي الى ما دون الحد الادنى. ولا شك في أنّ الاستمرار من دون وجود حكومة فاعلة سيعني تفاقم الازمة الاقتصادية ومزيداً من الانهيار للمؤسسات العامة وما تبقّى من ركائز الدولة، وعلى الأرجح تصاعد اعمال السرقة والعنف. فالمبادرة الفرنسية، وبخلاف التصريحات والمواقف المعلنة، طويت صفحتها واصبحت من الماضي. فالرئيس الفرنسي نفسه، وفي إطلاته الاخيرة، لم يعط جديداً سياسياً لإنعاش مبادرته حول ولادة الحكومة. وفي الواقع بَدا مهتماً اكثر في طرح مهلة الـ6 اسابيع والتلويح بأسلوب آخر من بعدها.

 

وفي الواقع لماكرون أسلوبه السياسي المختلف عن أسلافه، فهو لا يتردد في الادلاء بالحقائق حتى ولو كانت مزعجة او ستتسبّب بالمشكلات، فمثلاً جاهَر في العام الماضي بالاعلان عن الموت السريري لحلف شمال الاطلسي كما انه تحدث لاحقاً عن نهاية الهيمنة الغربية على العالم.

 

وفي لبنان بَدا الرئيس الفرنسي الشاب، وعلى رغم من اطّلاعه على التفاصيل المختلفة للحياة السياسية اللبنانية، الا انه كان جاهلاً لأسلوب المراوغة الذي يتبعه الطاقم السياسي اللبناني. لذلك بَدا منزعجاً من استقباله والترحيب بمبادرته بالابتسامات والكلام المعسول والمتعاون، والذي انقلبَ بعد مغادرته الى استمرار النزاع على السلطة والاستماتة للبقاء فيها وعدم تَبدّل ذهنية الفساد فيما الازمة السياسية تتفاقم.

 

لكن هنالك ما هو أهم، هل هنالك فعلاً قرار كبير بعدم تشكيل الحكومة واختلاق الأعذار لذلك بهدف تفكيك السلطة السياسية على نار الانهيار الاقتصادي والمالي؟ أي هل انّ هنالك من يريد رفع منسوب الحرارة لدفع الامور في اتجاهات اكثر عمقاً بدلاً من التلهي في موضوع تأمين ولادة الحكومة وفق شروط «اتفاق الطائف»؟

 

قال ماكرون غير مرة انه ليس ساذجاً، بما معناه انه بات مدركاً للخلفيات الفعلية لعدم الولادة الحكومية. فالواضح انّ مهلة الـ6 اسابيع ستنقضي من دون الدعوة الى تسمية رئيس جديد لتشكيل الحكومة، لا بل سينقضي وقت أطول بكثير خصوصاً مع ربط التأليف بالتكليف.

 

ومن هنا لا بد من الربط بين التطور الرئاسي الاميركي، وخصوصاً الشغب الذي يلوّح به فريق ترامب في حال الخسارة، وبين سَعي ماكرون الى تجديد مبادرته بالنسخة الجديدة بعد ستة اسابيع.

 

في الواقع الصورة تبدو صعبة حتى في كواليس السياسة اللبنانية، الجميع يتحدث عن أخطار مقبلة وعن دخول لبنان فعليّاً في بداية مشوار «جهنم».

 

وفي الكواليس ايضاً إقرار بأنّ النظام السياسي اللبناني أصبح من الماضي، وانّ هناك من يدفع في اتجاه تأمين الظروف لولادة صيغة جديدة. ولكن ظروف هذه الولادة يجب ان تكون صعبة وقاسية للذهاب الى قرارات كبيرة.

 

لا بل انّ البعض يتحدث عن استمرار حكومة دياب في تصريف الاعمال حتى نهاية عهد العماد ميشال عون، ويشطَح هؤلاء اكثر حين لا يستبعدون ان يكون عون آخر رئيس جمهورية وفق الصيغة السابقة، فالمنطقة ذاهبة الى ترتيبات جديدة وتركيب أنظمة مختلفة، وهو ما يوجِب إدخال لبنان فيه.

 

وبات شائعاً الكلام الذي قيل أمام رئيس الجمهورية: «اذا كنتم تصرّون على المداورة في الحقائب الوزارية، فلتشمل هذه المداورة كل شيء بدءاً من قيادة الجيش وحاكمية مصرف لبنان».

 

في العام 1987 اغتيل رئيس الحكومة رشيد كرامي، لكنّ الحكومة بقيت تصرّف الاعمال برئاسة الرئيس سليم الحص حتى نهاية ولاية الرئيس امين الجميّل. وأدّى التشابك السياسي الى فراغ ايضاً على مستوى رئاسة الجمهورية، وتَبع ذلك الجحيم الذي مَهّد لولادة «اتفاق الطائف».

 

قد يكون في الذكرى عبرة.