الرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي أعلن قبل أسبوع أنّه قرّر وضعَ مستقبل الرئيس بشّار الأسد جانباً وإخراجَه من لائحة أولوياته في سوريا، عاد خلال ساعات فقط لإجلاس الرئيس السوري على مقعد يقع على مسافة واحدة من خطة الحرب على الإرهاب والاستعدادات للقضاء على «داعش» في سوريا والعراق. لا بل هو يرى اليوم أنّ الحلّ في سوريا يمرّ عبر مطالبة الأسد بالرحيل وانطلاق المرحلة الانتقالية سياسياً ودستورياً هناك.
أيّ نوع من المساومات والتسويات الأميركية ـ الروسية ستظهر إلى العلن وتطبَّق أو تبقى طيّ الكتمان في ضوء اللقاء الأميركي ـ الروسي هذا الأسبوع؟
رغبة ترامب بعدم التصعيد المباشر ضد نظيره الروسي فلاديمير بوتين في هذه المرحلة هدفُها منحُه مزيداً من الشجاعة والتفاؤل في احتمال حدوث تفاهمات ثنائية بين البلدين حول ملفات وأزمات إقليمية عدة، لكنّ الإدارة الأميركية تقول أيضاً إنه لا بدّ من تذكير بوتين دائماً بضرورة أخذِ ما تقوله
واشنطن بجدّية، وإنّ بين أهداف الضربة الأميركية في الشعيرات توجيه رسالة من هذا النوع إلى الكرملين.
الأنباء عن وجود قرار أميركي بالتخلّي عن قاعدة «انجرليك» التركية لمصلحة قاعدة جديدة تبنيها واشنطن في شمال سوريا رسالةٌ تعني الأتراك أيضاً، لكنّ رسالة واشنطن الأخرى من خلال الهجوم على الشعيرات تقول لموسكو أيضاً إنّها لن تتخلّى لها عن الجغرافيا السورية وإنّها تحتاج إلى الوجود والانتشار العسكري السريع وإقامة مراكز اتّصال مع حلفائها المحلّيين الأكراد الذين سيكونون تحت حمايتها المباشرة في شمال سوريا.
عندما يقول وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون إنّ تقاعُس روسيا عن تنفيذ اتفاق تأمين الأسلحة الكيماوية في سوريا ساهم في هجوم خان شيخون، وإنّ «الفشل الحقيقي هو فشلُ روسيا في الوفاء بالتزاماتها» وهو في طريقه إلى موسكو، فهو يريد أن يقول للكرملين إنّه جاء ليناقش مسألة إقناع الروس في مراجعة مواقفهم من الأسد، لأنّ واشنطن ستواصل استهدافَ النظام السوري عسكرياً وسياسياً، ولأنّ الأخير تحوَّلَ ورقة محروقة لا يمكن لعبُها ضدّها، فقد يؤدّي ذلك إلى تدمير فرَص التفاهم الأميركي ـ الروسي في المسألة السورية.
حمّلَ تيلرسون، موسكو «مسؤولية غير مباشرة» عن الهجوم الكيماوي على خان شيخون، وقال إنّ الولايات المتحدة تتوقع أن تعيد روسيا التفكير في تحالفها مع الأسد. تيلرسون ولافروف سيَبحثان في أكثر من ملف وقضية إقليمية حتماً، وهما سيتجاوزان موضوع الشعيرات ويتوقّفان أكثر عند خان شيخون على ما يبدو.
الضربة الأميركية كانت موجّهة للنظام وقوّاته وقاعدته العسكرية في الشعيرات، لكنّها أيضاً ضربة لحلفاء النظام والمدافعين عنه، وعلى رأسِهم روسيا التي «شكرَت» واشنطن على إبلاغها بالعملية مسبَقاً، والدليل أنّها تعاونت معها وقبلت التحذيرات وسارعت إلى إجلاءِ جنودها وعتادها من المكان ودعوةِ النظام لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.
الهجوم الاميركي أبعدُ من أن يكون مجرَّد عملية ردّ انتقامي على مجزرة خان شيخون. واشنطن شعرَت ربّما بأنّ حظوظها في سوريا تتراجع وتتقلّص ولن تحصل على فرصة مغرية من هذا النوع قدّمها لها النظام وحلفاؤه.
روسيا تُعطل اجتماع مجلس الأمن الدولي، واحتمال صدور موقف أممي عقابي ضدّ النظام السوري عقب هجوم خان شيخون، وأميركا تستغلّ الفرصة لتجيير الغضبةِ العالمية لمصلحتها حتى ولو كانت تعرف أنّ ما تفعله يتعارض مع المشروعية الدولية ولا يختلف كثيراً عمّا قامت به في العراق عام 2003.
أميركا وبعد تعديل جذري في أسماء فريق العمل الرئاسي المحيط بترامب قرّرت التدخّلَ العسكري المباشر في سوريا لتوجيه أكثر من رسالة إلى أكثر من طرف: العودة السريعة والناجزة إلى المشهد السوري، الخروج من حالة التناقض والتضارب التي تواجهها سياستُها في سوريا منذ سنوات، عدم تركِ روسيا لوحدها هناك، رسالة تحذير أساسية لإيران بضرورة تخلّيها عن أحلام التمدّد والانتشار في سوريا ولبنان، تفوُّقها العسكري على روسيا التي اكتفَت بمتابعة تفاصيل الهجوم الصاروخي على الشعيرات، عدم الرهان طويلاً على مجلس الأمن الدولي وجلساته التي لا تصل إلى نتيجة تخدم مصالحَها، التفرّد بالقرار الأميركي عند الضرورة الاستراتيجية على رغم أنّه قد يكون على حساب القانون الدولي والتعهّدات والاتفاقات، خصوصاً إذا ما حاوَل البعض محاصرتَها بضرورة مشروعية قراراتها وخطواتها العسكرية.
ترامب زاد من شعبيته في الداخل والخارج عندما أعطى أوامرَه بتحريك الصواريخ، لكنّه لن يضمن أن يستمرّ هذا التأييد والحشد السياسي والديبلوماسي طويلاً، خصوصاً إذا ماطلَ في الخروج بتفاهمات عاجلة مع روسيا حول الملف السوري.
هناك قرار أميركي منفرد في هجوم الشعيرات قد يتحوّل «شعرة معاوية» بين أميركا والمجتمع الدولي، لأنه لا يحمل أيَّ غطاء قانوني أممي وهو سيَسقط قريباً إذا ما استدرجت موسكو الأميركيين إلى اختبار آخر تكون نتائجه عكس ما حدث في خان شيخون.
رئيس الحكومة الروسية ديميتري ميدفيديف يقول إنّ الغارة الصاروخية كادت أن تتسبّب بصِدام بين البلدين تمّ تجنُّبه في اللحظة الأخيرة. والمحادثات الأميركية ـ الروسية أمام تقاطعٍ مصيري في مسار الأزمة السورية، إمّا أن يعتمد خيار استمرار الاستنزاف والنزيف الذي سيحمل معه احتمالَ التصعيد الأكبر هناك، وإمّا أن تظهر إلى العلن منظمومة تفاهمات ترسم خريطة الحلّ والتسويات عبر إشراك واشنطن في طاولة الحوار الثلاثية التي التقت في الأستانة وموسكو وجنيف وأنقرة أكثر من مرّة.
قواعد اللعبة في سوريا لن تتغيّر بسبب عملية عسكرية تنفّذها أميركا انتقاماً لضحايا السلاح الكيماوي، وبوتين لن يُشرك ترامب في أيّ طاولة حوار قبل الحصول على تنازلات وتسويات إقليمية مرضية بعد الثمن الكبير الذي دفعه في سوريا وأوصَله إلى تقارب يَجمع تركيا وإيران تحت سقفٍ واحد تريد واشنطن اليوم وبـ«شطحة» صاروخ نسفَه وبناءَ طاولة حوار جديدة تُحدّد هي من سيجلس حولها.