فجأةً، أرفق الرئيس الأميركي دونالد ترامب فَرَماناته بتغريدةٍ ممهّدةٍ لفرمانٍ جديدٍ تحدّث فيها عن إعداماتٍ بشكلٍ كبير تطال المسيحيين في الشرق الأوسط مهدِّداً بأنه سيوقف هذا الأمر.
إعداماتٌ للمسيحيين؟ اذا كان الرئيس يقصد أحكام المحاكم التي تَصْدر ضدّ مجرمين أُدينوا بالإعدام (وهو المصطلح الرسمي هنا)، ففي الشرق الأوسط تكاد هذه الإعدامات تكون أقلية الأقلية وربما نادرة وتتعلّق فعلاً بجرائم كبيرة، ثم انها تُطبَّق على المسلمين بنِسبٍ لا تَقبل المقارنة وأيضاً لأسباب جنائية. أما إذا كان يستنكر عقوبة الإعدام من أساسها، فهي موجودة في دولته وبأشكال مختلفة.
بالتأكيد، لم يَقصد ترامب أحكام الإعدام الصادرة عن جهاتٍ قضائية. اذاً، فهو يقصد ربما حالات الموت التي طالت مسيحيين على يد تنظيماتٍ ميليشيوية أو إرهابية متطرّفة. ايضاً المنطق غريب هنا، ففي العراق حصلتْ طبعاً اعتداءاتٌ دموية على مسيحيين، لكن اعتداءاتٍ دموية وهمجية أكبر حصلتْ ضدّ المسلمين بمختلف مذاهبهم، وكذلك الحال بالنسبة الى أتباع دياناتٍ غير مسلمة وغير مسيحية. والأمر نفسه تمّ، ولو على نطاقٍ أضيق في سورية، إنما لم يتحوّل الى حملةٍ كما هو حاصلٌ مع القرى والمدن المسْلمة التي أبادتْها حمم نظام بشار الأسد وحلفائه، إضافة الى انه لم يعد سراً أن النظام السوري استخدم ورقة الأقليات «برميلاً سياسياً» متفجّراً في وجه العالم لدعمِ حملاتِ الإبادة التي قام بها ضدّ الغالبية.
هل هناك حملات إبادةٍ وإعدام للمسيحيين العاملين في مختلف دول الخليج؟ في لبنان مثلاً؟ في الأردن والمغرب والجزائر وتونس حيث يعيش المسيحيون بكل حرية وبكامل حقوقهم؟ في مصر التي تكون الرئاسة والنظام والنخب الموالية والمعارِضة أوّل مَن يقف مع الكنيسة ضدّ أيّ استهدافٍ لها؟ في السودان التي جرى فصْل الدولة لمصلحة قيام دولة أخرى على أساس «مسيحية» شعبها؟
طبعاً، العرب والمسلمون ليسوا من جنس الملائكة، وبين ظهرانيهم الكثير ممّن يعتقدون أنهم وحدهم مَن سيدخل الجنّة وأن أتباع الديانات الأخرى في النار، لكن هذا المنطق صار يسري على أتباع الدين الإسلامي نفسه لأن احداً لم يصحّحه منذ الأساس، وها نحن نرى اليوم أبناء المذاهب الإسلامية يتصارعون على الجنّة وهم في الأرض، فهذا يقول إن فرقته الناجية، وذاك يقول إن لديه الدلائل على أن فرقته هو… هي الناجية.
لكن ذلك الشحن يمكن وضعه في إطار التخلّف والخيْبة والعجز عن محاكاةِ الواقع ومجاراته، فعندما يعجز مُسْلِمٌ عن اختراع برغي واحد يمكن استخدامه في جهاز «آي فون» او عن استيعاب الجهد والمال المصروف في تطوير الخلايا الجذعية، يلجأ إما الى الذهاب 1400 عام الى الوراء حيث بداية الرسالة والصراعات التي رافقتْها، وإما الى القفز فوراً الى «الخلود» وما بعد الموت.
إعداماتٌ للمسيحيين في الشرق الأوسط وبأعداد كبيرة؟ كانت التغريدة تقترب بتردُّد أيضاً من وصْف ذلك بالمحرقة، ولكن أين؟ هل هي بداية دعوةٍ لمسيحيي الشرق للرحيل الى الجنّة الاميركية الموعودة ما دام ترامب جازماً في رفْضه تَورُّط أميركا مجدداً في المنطقة؟ هل كتبها له ستيفن بانون مستشاره للشؤون الاستراتيجية معتقداً انه ما زال يدير موقعه العنصري «برايتبارت» ضدّ المسلمين وليس مسؤولاً كبيراً في البيت الأبيض؟ هل أوهموه انه بذلك يصبح زعيماً خالداً للمسيحيين في العالم ينافس بابا الفاتيكان؟ هل تمّ بثّها بتوقيتٍ خاطئ وكان يجب أن تُبث بعد أمرٍ ما يُحضّر له؟
الحقيقة، وإن كانتْ مُفارَقَتُها ساخرة، يمكن تفسير ما قاله ترامب على أساس ان الأمر اختلط عليه بين المسلمين والمسيحيين، فاعتبر المسلمين مسيحيين كونهم يؤمنون أساساً بالنبي عيسى عليه السلام، فهم مَن يتعرّضون للإبادة بعدما أخبرَهم رئيس ترامب السابق باراك أوباما أنه يسمع صوتهم. علا صوتُهم فانتُزعت حناجرهم، تَظاهَروا للتغيير فداستْهم الدبابات، وَعَدَهم بالخير فأبادهم الكيماوي. المسلمون هم مَن عاشوا ويعيشون الإعدامات وبأعداد كبيرة. مِن أنظمتهم، ومِن ميليشيات إيران المذهبية، ومِن تنظيماتِ «داعش» و«القاعدة»، وقبل هؤلاء كلهم مِن اسرائيل ربيبة «الحضارة» الغربية… واليوم عندما يهربون من ذلك كله، إما أن يبتلعهم البحر وإما أن تُقفل أبواب الهجرة أمامهم فتعيدهم فرَمانات ترامب المانعة استقبالهم الى الموت.
حصدتْ أميركا زعامة العالم لأننا وغيرنا نريد أن نشبهها، أما أن يترأسها شخصٌ يريد ان يُشْبِهَنا ويُشْبِه أسوأ ما فينا، فلنتحضّر لزمنٍ… يحتضر!