Site icon IMLebanon

ترامب والثقافة العميقة

تكتل الجمهوريون والديموقراطيون في أميركا ضد دونالد ترامب. استخدموا كل وسائل الإعلام لإدانة دفاعه عن النازيين الجدد والعنصريين البيض. أنزلوا الترسانة العسكرية إلى المعركة: أكد قائد «المارينز» الجنرال روبرت نيلر أن «لا مكان للكراهية العنصرية أو التطرف في الجيش الأميركي». قائد البحرية الأميرال جون ريتشاردسون قال: «سنقف دوماً ضد عدم التسامح والكراهية». وأمن لهما قائد سلاح الجو الجنرال ديفيد غولدفين الغطاء. أما رئيس الأركان الجنرال مارك مايلي فتعهد: «عدم تسامح الجيش مع العنصرية والتطرف أو الكراهية. فهذا ضد مبادئنا وكل ما نمثله منذ عام 1775».

الهجوم الداخلي والخارجي على ترامب يظهره كائناً فضائياً سقط في البيت الأبيض واحتل موقع الرئاسة مصادفة. لكن نظرة سريعة إلى المجتمع الأميركي تؤكد أن الرئيس يمثل الثقافة الأميركية العميقة، ثقافة الـ «واسب» (أبيض أنغلوساكسوني بروتستانتي)، بما يعنيه هذا المفهوم من عنصرية وادعاء تفوق عرقي وديني، تؤمن به تجمعات متحجرة، مثل المسيحيين الصهاينة الذين يعتبرون وجود إسرائيل تمهيداً لقدوم المسيح، ويجب دعمها إلى أن تتحقق النبوءة في معركة «هرماغيدون»، حين «ينتصر الخير المطلق على الشر المطلق». آمن بهذه الخرافة عدد من الرؤساء لعل أشهرهم رونالد ريغان وجورج بوش الابن الذي تعلم الديموقراطية من المنشق الروسي ناثان شارانسكي، على ما قال. بوش شن الحرب على العراق باعتباره بابل، انتقاماً للسبي اليهودي قبل مئات القرون، ولحماية الدولة العبرية من الخطر القادم من بلاد الرافدين. لكن الفرق الوحيد بين بوش وترامب أن الأول استطاع تكوين فريق من الدولة العميقة، خصوصاً المحافظين الجدد الذين تغلغلوا في المؤسسات الرسمية، فيما الثاني حاول تكوين فريق من معتنقي الثقافة الشعبوية العميقة غير المتمرسين بالحكم. حاول محاربة الجميع بأدوات استعار بعضها من خبرته التجارية في المساومة، ومن هذه الثقافة الجامدة المتعالية التي لا تعرف البراغماتية في العمل السياسي، إما النصر وسحق الآخر أو الهزيمة والانزواء في انتظار اللحظة المناسبة. لحظة عبر عنها ترامب فكسب شرعية شعبية ما زالت تقف إلى جانبه في مواجهة خصومه، وليس أمامه سوى الوقوف إلى جانبها في معركتها، فندد بنزع تماثيل شخصيات تاريخية قاتلت لتكريس العنصرية خلال الحرب الأهلية. الرئيس فخور بهذا التاريخ الذي «لا يمكن تغييره»، على ما قال.

الثقافة العميقة التي أوصلت ترامب إلى البيت الأبيض هي الروح الأميركية الحقيقية، أما الدولة العميقة المستندة إلى هذه الروح فقد قوننتها وحولتها إلى مؤسسات تحتكر النطق باسمها وتديرها لمصلحة الطبقة الحاكمة ومعظمها من المؤمنين بتفوق الرجل الأبيض الذي يدعي عدم العنصرية، وحجته أن في بيته خادمة سوداء. وما أن يبرز مسؤول يتحدى هذه التقاليد حتى تواجهه كل المؤسسات بتشريعاتها وأعرافها، فتعود الحرب الأهلية الكامنة إلى التمظهر احتجاجات مسلحة، يقودها النازيون الجدد والعنصريون البيض (كلو كلوكس كلان). وتبدو البلاد خائفة فالجميع مسلح والجميع خائف من الجميع. وينتشر الرعب في العالم الذي اعتاد أن يصدر الغرب الحروب إليه للتخلص من أزماته الداخلية.

الدولة العميقة الملونة بالقوانين غير العنصرية في الولايات المتحدة استطاعت أن توصل أوباما إلى البيت الأبيض. لكن الرئيس السابق بدا وسط صراع هذه الدولة مع الثقافة العميقة كأنه وشم أسود على جسد أبيض، إزالته صعبة لكنها غير مستحيلة. وها هو ترامب يحاول المستحيل، مستعيناً بتراث متجذر من حروب الإبادة العنصرية.