تتّبع إدارة دونالد ترامب سياسة في غاية الذكاء في تعاطيها مع ايران. لكنّ هذه السياسة الذكية، المرتكزة على العقوبات، تنطوي في الوقت ذاته على مخاطر على دول المنطقة، خصوصا دول الخليج العربي التي لم تتردّد «الجمهورية الإسلامية» في استهدافها. هذا ما حصل أخيرا مع المملكة العربية السعودية حيث تعرّضت منشآت «أرامكو» في بقيق وخريص لهجمات إيرانية بالصواريخ. يعتبر ذلك اعتداءً على الاقتصاد العالمي وليس على السعودية وحدها.
استطاعت السعودية اصلاح الاضرار سريعا، على الرغم من حرمانها لبضعة أيام من تصدير نحو خمسة ملايين برميل نفط يوميا. الأكيد ان ذلك فاجأ ايران التي كانت تعتقد ان السعودية ستكون عاجزة عن اصلاح الاضرار في غضون ايّام وان سعر برميل النفط سيرتفع الى مئة دولار. من اهمّ ما تلا الاعتداء الايراني ان سعر برميل النفط لم يرتفع الّا قليلا مباشرة بعد الاعتداء. ما لبث السوق النفطي ان اخذ مجراه الطبيعي بما يشير الى ان ايران لم تأخذ علما بالتحولات العالمية في مجال الطاقة.
لكن السؤال الذي بقي يطرح نفسه بحدّة، في ضوء خطاب دونالد ترامب امام الجمعية العمومية للأمم المتحدة، ما الذي ستفعله ايران في حال إصرار الإدارة الاميركية على فرض مزيد من العقوبات عليها؟
ليس لدى ايران ما تردّ به على العقوبات غير استهداف دول الخليج وذلك في غياب أي رغبة أميركية في الذهاب الى توجيه ضربات مباشرة اليها. الأكيد ان العقوبات الاميركية اثرت كثيرا على الاقتصاد الايراني. تكاد هذه العقوبات ان تخنق ايران. الأكيد أيضا انّ ايران تراهن على سقوط دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية المقرّرة في تشرين الثاني – نوفمبر 2020. هذا يعني بوضوح ليس بعده وضوح انّ «الجمهورية الإسلامية» مصرّة على استمرار الوضع الراهن المتمثّل في رفض استيعاب انّ عليها تغيير سلوكها.
هناك دوران في حلقة مقفلة ما دام «المرشد» علي خامنئي يرفض التعاطي مع الواقع، أي الاعتراف بانّ ايران ليست قوّة عظمى وان في استطاعة قوى مهمّة مثل الصين استخدامها في اطار صراعات، ذات طابع تجاري، مع الولايات المتحدة، لا اكثر. ليس في ايران من يريد ان يطرح سؤالا في غاية البساطة. هذا السؤال هو الآتي: ما الذي يفيد في المدى الطويل ان تكون هناك سيطرة إيرانية على اربع دول عربية هي العراق وسوريا ولبنان واليمن؟
حسنا، اعترف العالم بسيطرة ايران على هذه الدول الأربع وعلى عواصمها. اين تصرف هذه السيطرة سياسيا ما دام الطفل يعرف ان ليس لدى ايران ما تقدّمه غير التخلّف.
يفترض في ايران ان تعرف انّ كلّ ما تقوم به لا يخدم ايّ قضيّة. لا يخدم القضيّة الفلسطينية التي اخذت على عاتقها المتاجرة بها ولا يخدم قضيّة أي شعب عربي يسعى الى تحقيق تقدّم ما على الصعيد الاجتماعي. ما الذي قدمته ايران الى العراقيين غير مزيد من الفقر والبؤس؟ ما الذي قدمته للسوريين غير دعم نظام اقلّوي يشنّ حربا على شعب بكامله يبحث عن حدّ ادنى من الكرامة؟ ما الذي قدمته للبنان واللبنانيين غير جعلهم يعيشون تحت سطوة ميليشيا مذهبية مسلّحة لا همّ لبنانيا لها، بل انّ كلّ همّها محصور في كيفية تحويل لبنان الى ورقة إيرانية؟ مثل هذا التصرّف الايراني في لبنان لا يمكن ان يؤدّى سوى الى افلاس البلد والى هجرة مزيد من اللبنانيين، خصوصا من المسيحيين، الى ايّ مكان آخر خارج لبنان.
ما الذي لدى ايران تقدّمه الى اليمن غير مزيد من التخلّف والامراض والغرائز المذهبية؟ ليس لدى الحوثيين الذين يرفعون شعار «الموت لاميركا، الموت لإسرائيل، اللعنة على اليهود» ما يساهمون به غير انتشار مزيد من الفقر والامراض في كلّ انحاء اليمن. اميركا لم تمت ولن تموت وإسرائيل احتلت هضبة الجولان السورية ووضعت يدها على القدس الشرقية، فيما اليهود في وضع يحسدون عليه… نعم يحسدون عليه بفضل الحوثيين، أبناء المدرسة الايرانية، ومن على شاكلتهم
تستطيع ايران شنّ مزيد من الهجمات على دول عربية، خصوصا في منطقة الخليج. ما لا تستطيعه هو التصالح مع المنطق والواقع ومساعدة الشعب الايراني في سعيه الى العيش بطريقة افضل. مثل هذا التصالح مع المنطق والواقع يتطلّب شجاعة بدءا بالاعتراف بانّ ما يزيد على نصف الشعب الايراني يعيش تحت خط الفقر وان لا شيء ينقذ ايران غير العودة الى دولة طبيعية من دول المنطقة بدل السير في مشروع توسّعي لا افق من ايّ نوع له.
هناك عقوبات أميركية وهناك رغبة لدى إدارة ترامب في تفادي أي مواجهة عسكرية مباشرة مع ايران. لا يمكن التعاطي مع هذه المعادلة عن طريق مزيد من المواقف الهجومية تجاه دول الخليج العربي التي تسعى الى تطوير نفسها داخليا. بدل الاعتداء على دول الخليج عن طريق صواريخ تطلق من ايران او عبر ميليشيات مذهبية عراقية ولبنانية ويمنية تعمل بامرة «الحرس الثوري»، هناك طريق آخر تستطيع ايران انتهاجه. هذا الطريق هو طريق الاعتراف بان العالم بات مقتنعا بانّ المشكلة مع «الجمهورية الإسلامية» ليست في الاتفاق النووي الذي وقعته مع مجموعة الخمسة زائدا واحدا في تمّوز- يوليو من العام 2015. المشكلة في الدور الايراني في المنطقة وفي الصواريخ الايرانية التي تستهدف كل دولة عربية في الخليج.
ليس كافيا اعلان الرئيس الايراني عن الاستعداد للبحث في بعض التعديلات التي تتناول الاتفاق النووي الذي اعتبرته إدارة باراك أوباما بمثابة انجاز بحدّ ذاته رافضة رؤية ما هي السياسة الحقيقية لإيران في المنطقة.
ما يبدو مطلوبا اكثر من ايّ وقت هو الاعتراف الايراني بأنّ ثمّة حاجة الى اتباع نهج جديد. في أساس هذا النهج ان تأخذ ايران حجمها الطبيعي في المنطقة بعيدا عن الاوهام الني تصنعها الميليشيات المذهبية في العراق وسوريا ولبنان واليمن. هذه الميليشيات لا مستقبل لها ولا تبني دولا ولا تصنع أدوارا. كلّ ما في استطاعة هذه الميليشيات عمله هو خدمة إدارة أميركية لا تمتلك ايّ قيم أخلاقية من أي نوع وتؤمن فعلا بانّ العقوبات كافية لاخضاع ايران بغض النظر عمّا يحلّ بهذه الدولة العربية او تلك.
ليس في وارد هذه الإدارة ان تأخذ في الاعتبار المخاطر التي ستترتب على اكتفائها بالعقوبات. في النهاية انّ همّ ترامب محصور في العودة الى البيت الأبيض في السنة 2020. يبدو ان هناك نقطة تلاق إيرانية – أميركية. الطرفان مهتمان بما يخصهما. ترامب مهتم بالانتخابات الرئاسية المقبلة وخامنئي مهتم بمستقبل نظام يعرف جيّدا ان نهايته تبدأ عندما تعود ايران دولة طبيعية من دول المنطقة. دولة تهتمّ بشعبها ورفاهه اوّلا…