توحي تهديدات الرئيس الأميركي وكبار مسؤولي إدارته لإيران، وردود طهران المتحدية، بأن البلدين يتجهان في شكل مؤكد إلى مواجهة قد تنفجر في أي لحظة. لكن الوقائع تفيد بأن دونالد ترامب وعلي خامنئي ليسا في وارد خوض حرب قد تكلفهما الكثير، وإنما يتفاوضان على رسم حدود للعلاقة بين دولتيهما، بعد تداخل نفوذهما في أكثر من «ساحة» مشتركة. فالأول لم يخرق في فرضه عقوبات إضافية إطار الاتفاق النووي المبرم، وهو الأهم بالنسبة إلى إيران، والثاني لم يتجاوز في رده الشعارات المعتادة المستخدمة طوال العقود الأربعة الماضية، والتي لم تحل من دون التوصل إلى تفاهم.
وكان ترامب توعّد خلال حملته الانتخابية بأنه «سيمزق الاتفاق النووي السيء مع إيران فور تسلمه» الرئاسة، لكنه تراجع عن تهديده وطمأن حلفاءه الأوروبيين إلى أنه سيحافظ على الاتفاق. ثم عاد ووجه «تنبيهاً» إلى طهران بسبب زعزعتها الاستقرار الإقليمي، لكنه لم يوضح حتى الآن كيفية مواجهتها وأين سيتم ذلك.
وبعد عملية الإنزال الأميركية الأخيرة الفاشلة في اليمن، سرت تكهنات بأن ترامب قد يختار هذا البلد ساحة للمواجهة الأولى مع إيران، على رغم محدودية الفعل الأميركي فيه وتركيزه على متطرفي «القاعدة». وفي حال صحّ التوقع، يكون الرئيس الأميركي يحاول بذلك استغلال فرصة قائمة، والاستفادة من قرار إقليمي سبق أي قرار دولي، بعدم ترك هذا البلد يقع في يد الإيرانيين، لما قد يشكله من اختراق للنواة الصلبة الحالية في مواجهة المشروع الإيراني.
والمقصود بالنواة الصلبة دول الخليج العربية، بما هي مركز ثقل ديني واقتصادي، بعدما انهار الجناحان الشرقي والغربي للعالم العربي، أو يكادان. ففي الشرق، ينوء العراق وسورية تحت وطأة الانقسام الطائفي والعرقي، والحرب المكلفة على داعش، فيما تقضم إيران تدريجاً من سيادتهما وتحكم قبضتها على قرارهما السياسي والعسكري. وفي الغرب، تتعثر مصر في عقبات السياسة والاقتصاد والأمن، فيما ليبيا ممزقة ومحتربة، وينشغل المغرب والجزائر بمشكلاتهما الداخلية الملحّة وخلافهما الصحراوي.
وفي ما يخص العراق، اضطر وزير الدفاع الأميركي جيمس ماتيس أثناء زيارته بغداد قبل أيام، إلى نفي أي نية لبلاده في «مصادرة» النفط العراقي، في التفاف على تصريحات ترامب الذي قال إن على الولايات المتحدة الاستيلاء على نفط العراق، بل كان عليها أن تفعل ذلك في 2003 وإبقاء قواتها في بلاد الرافدين التي تجاهر إيران بضمها إلى «امبراطوريتها» بتسهيل من أميركا نفسها.
أما في سورية، فيدافع ترامب عن إمكان التعاون مع روسيا في محاربة «داعش» وفي إيجاد حل لأزمة النظام يبقي على الأسد. لكن الوضع على الأرض يشير إلى أن التعاون المزمع محكوم بإشراك إيران في أي ترتيبات أو تسويات، كونها تملك روابط وثيقة جداً بنظام دمشق وتنشر ميليشيات عدة صارت جزءاً أساسياً من آلة النظام العسكرية. ويصعب تصور كيف يمكن لواشنطن التوفيق بين كلامها عن الحد من النفوذ الإقليمي لإيران وبين إشراكها في الحل السوري، فضلاً عن تحقيق أهدافها في هذا البلد.
وبالتأكيد، فإن طهران التي تغلب البراغماتية الانتهازية على سلوكها رأت في تهديدات ترامب فرصة لإعادة تطهير سمعتها التي تلوثت بدماء السوريين، لذا سارعت إلى إعادة رفع شعارات العداء لأميركا، بعدما تخلت عنها في أواخر عهد أوباما، وباشر «حزب الله»، وكيلها في لبنان، الحديث عن احتمالات مواجهة جديدة مع إسرائيل، وهي «الفزاعة» الجاهزة دوما للتشكيك في أي دعوة للحد من تورطه المجرم في سورية واستفراده بلبنان.
ترامب وإيران يتقنان كلاهما لغة الصفقات والمقاولة والمواجهات عبر أطراف ثالثة، ولن يورط أي منهما نفسه في ما قد ينعكس سلباً على «منجزات» بذل جهوداً مضنية لتحقيقها، سواء الوصول إلى البيت الأبيض أو مد النفوذ إلى دول عربية، وما التصعيد الكلامي سوى واجهة للتنفيس والتفاوض لن تغير من حقيقته مناوشات هنا وهناك.