أخيراً وبعد كثير من التسريبات الإعلامية التي سرعان ما جرى نفيها، أقال الرئيس الأميركي دونالد ترامب وزير الخارجية ريكس تيلرسون بطريقة فظّة ومهينة. ولم يكن تيلرسون هو الرجل الأول الذي يغادر إدارة ترامب، فقد سبقه العشرات وغالب الظن لن يكون الأخير.
الرئيس الاميركي الذي درج على إعطاء «أمر اليوم» من خلال «التوتير» خلافاً لاصول التعامل التي اعتمدها جميع الذين سبقوه، برّر قرار الإقالة بعدم التفاهم حول الملف الايراني وهو بالتأكيد ليس السبب الوحيد الذي أدّى الى هذا القرار.
فهناك الخلاف أيضاً على ملف كوريا الشمالية التي راهن تيلرسون على حلٍّ تفاوضي معها كونه السبيل الوحيد فيما عارضه ترامب واصفاً إياه بأنه «يضيّع وقته» قبل أن يعود ويسلك الخيار التفاوضي ولكن بعد نحو عام وبالتزامن مع إقالة تيلرسون.
ترامب وضع وزير خارجيته جانباً وتجاوز وزارة الخارجية بكاملها فاندفع في اتّجاه الشرق الاوسط من خلال صهره جاريد كوشنر، وتعمّد إبقاء سفارات بلاده في السعودية ومصر والأردن بلا سفير. من المرات النادرة التي فرضت فيها وزارة الخارجية الاميركية حضورَها كانت مع أزمة الرئيس سعد الحريري في السعودية، عدا ذلك بدا ترامب متجاهِلاً وجود وزير خارجيته وواضعاً جانباً خبرات الديبلوماسيين والمفاوضين الأميركيين، ما حدا بتيلرسون الى وصف رئيسه في إحدى المرات بـ«الأحمق».
لكنّ هنالك سبباً اساسيّاً اضافيّاً يقف وراء «طرد» تيليرسون في هذا التوقيت وهوما يتعلّق بأزمة ترامب الداخلية حول ملف التدخّل الروسي في الانتخابات الرئاسية.
ذلك أنّ لتيلرسون علاقات جيدة مع المسؤولين الروس الكبار خلال عمله السابق في شركة «أكسون موبيل» النفطية. ربما أراد ترامب تقديم وزير خارجيته ككبش فداء بعد أن أثارت علاقتُه مع الروس كثيراً من الجدل الداخلي يوم تعيينه في وقتٍ يعمل فيه اللوبي اليهودي بقوة لإنقاذ ترامب من ورطته الداخلية مع العلم أنّ الحكومة الاسرائيلية لم تكن مرتاحة أبداً لتيلرسون، وهي بدت مرتاحةً لوصول مايك بومبيو صاحب السلوك المتشدّد والمعارض الشرس لإيران وسوريا وتركيا، وهو وصف في إحدى المرات ديموقراطية الحكومة الإيرانية بأنها مشابهة لديموقراطية الرئيس التركي في مقابل ميله الى تعاونٍ وثيق مع الأكراد.
إلّا أنّ لحصر ترامب قرار إقالة تيلرسون بالملفّ الإيراني فقط إنما له أسبابه السياسية والإعلامية وهو يدغدغ الشارع الاميركي من جهة ويغازل رئيس الحكومة الاسرائيلية بنيامين نتنياهو الذي كان التقاه قبل أيام، وهو ما يؤشّر الى أنّ ترامب المحاصَر داخلياً ونتنياهو الجريح قد اتّفقا على عملٍ ما ضد مصالح ايران في سوريا ويجري التمهيد له.
ويوم الثلثاء يلتقي ترامب بوليّ العهد السعودي في ختام جولة خارجية طويلة له دشّنها في مصر بهجوم عنيف على ايران اضافة الى تركيا. وقبل ذلك بيومين ستجري الانتخابات الرئاسية الروسية والتي كبّلت أو فرملت اندفاعة بوتين في سوريا موقتاً. ويقال إنّ الرئيس الروسي سيكون اكثر صلابة بعد إقفال صناديق الاقتراع.
كل هذه الصورة تعني أنّ الشرق الاوسط مقبل على مرحلة مضطربة، وبالتأكيد ليس هنالك من حروب مباشرة للقوى الكبرى كما يتوهّم البعض، أو كما توحي المواقف المعلنة، لكنّ الحروب بالواسطة ستشهد «ازدهاراً» في المرحلة المقبلة.
بعد زيارة نتنياهو لواشنطن دار همسٌ في الكواليس الديبلوماسية حول الحاجة الى مرحلة تصعيد جديدة في سوريا تتولّى إسرائيل دوراً اساساً فيها وهو ما سيسمح باستعادة هيبتها العسكرية بعد أن تضرّرت كثيراً نتيجة إسقاط طائرتها الحربية. كذلك ستساعد هذه الصورة الحربية نتنياهو في احتواء أزمته الداخلية التي تهدّد بإسقاطه. كذلك ستساعد ترامب في استعادة اعتباره الخارجي وهو الذي يستعدّ لملفّين أساسيين الأول والمتعلّق بـ«صفقة العصر» أو الخطة الاميركية للتسوية الاسرائيلية ـ الفلسطينية والتي ستُطرَح قريباً.
والثاني مفاوضاته مع رئيس كوريا الشمالية والمقرّرة مبدئياً في ايار المقبل. ذلك أنّ فريق الرئيس الاميركي يريد الوصول الى هذه المفاوضات وهو في وضع قوي لكي يستطيع الخروج بأفضل النتائج.
وانطلاقاً من هنا، سيعمل ترامب على الضغط على ايران في موضوع الاتفاق النووي. فهو يتوعّد بإلغاء الاتّفاق فيما يريد ضمناً اضافة شروط جديدة تتمثل بقيود على برنامج الصواريخ البالستية الايرانية.
ففريق ترامب يدرك جيداً أنّ لواشنطن مصلحةً في الاتّفاق النووي كما أنّ إلغاء الاتّفاق سيؤدّي الى تقويض أيّ تفاهم ممكن مع كوريا الشمالية قبل الجلوس الى طاولة التفاوض لأنّ الإنسحاب الاميركي من الاتّفاق النووي الإيراني سيدفع رئيس كوريا الشمالية الى الإستنتاج بأنّ الضمانات الأمنية التي يسعى للحصول عليها مقابل التوقف عن تطوير برنامجه النووي لا يمكن الركون اليها.
لذلك فإنّ الدرب الوحيد لترامب لتعزيز موقعه الدولي يبقى على الساحة السورية. وهو الدرب نفسه الذي يصوّب نتنياهو في اتّجاهه مرة لاستعادة هيبته الداخلية وأُخرى لتكريس دور إسرائيل «رأس حربة» للمحور المواجِه لإيران، وبالتالي فتح مسار التسوية مع الفلسطينيين وبدء مرحلة التطبيع مع الدول الخليجية.
وخلال الاسابيع القليلة الماضية باشرت إسرائيل التخطيط والتحضير لشنّ هجوم واسع النطاق تقوم به فصائل المعارضة السورية في محافظتي القنيطرة ودرعا ويشارك في التخطيط للعملية ضبّاط اميركيون. والهدف المعلن لهذه العملية تخفيف الضغط العسكري الحاصل على الغوطة فيما الهدف الفعلي هو تأمين المنطقة الجنوبية في سوريا لمصلحة اسرائيل.
وفي الوقت نفسه زاد الجيش الاميركي من حضوره عند الحدود السورية ـ الأردنية من خلال ضباط وخبراء ومسؤولين ميدانيين لجهاز المخابرات الاميركية، اضافة الى ضباط بريطانيين.
كذلك اشارت صحيفة «وول ستريت جورنال» الى تعزيز الحضور العسكري الاميركي في قاعدة «التَنَف» وسط تقارير روسية عن نيّة واشنطن استهداف دمشق بالصواريخ، فيما تسعى اسرائيل الى قصف جوّي لقاعدة للإيرانيين موجودة قرب العاصمة السورية. وفي اعتقاد البيت الابيض أنّ هذه الحماوة العسكرية ستؤدّي، ليس فقط الى تحجيم النفوذ والحضور الإيرانيَّين في سوريا، وإنما لإشغال طهران لمنعها من المشاغبة على الخطة الاميركية لتسوية اسرائيلية – فلسطينية ستُطرح قريباً، ويعمل ترامب على تأمين ظروفها لتجنّب إجهاضها قبل ولادتها.
وفي المقابل أعاد «حزب الله» نشر مجموعاته في سوريا فعمل على تعزيز قواته في القنيطرة السورية على مسافة ليست ببعيدة عن القوات الاسرائيلية. كذلك دفع الجيش السوري ببعض وحداته الى درعا.
وفي الاطار عينه عادت العلاقة الى توترها بين السلطة الفلسطينية وحركة «حماس» وسط اتّهامات متبادَلة بنقض اتّفاق المصالحة بين الطرفين. وخلال زيارة الرئيس الفلسطيني محمود عباس الاخيرة للولايات المتحدة الاميركية أظهرت نتائج الفحوص الطبّية التي أُجريت له دقّة حاله الصحّية. ما يعني أنّ واشنطن ملزمة بالاندفاع سريعاً في خطتها للتسوية.
في هذا الوقت نجا رئيس الحكومة في السلطة الفلسطينية من محاولة لاغتياله، وفيما اتّهمت السلطة «حماس» بالوقوف وراء هذه العملية، بدا انّ «الرسالة الحمراء» تضمّنت في ثناياها تحذيراً صارماً أبعد من الساحة الفلسطينية .
اما على الجبهة السورية الشمالية فالوضع ليس منفصلاً عن المشهد بكامله، فأنقرة استقبلت بتوجّس خبرَ إقالة تيلرسون الذي كان زارها أخيراً وعقد تفاهماً ناجحاً معها.
والرئيس التركي رجب طيب اردوغان الذي يدرس احتمالات الدعوة الى انتخابات مبكرة أجرى اتصالات بالعراقيين والايرانيين بهدف التعاون عسكرياً ضد الاكراد شرق الفرات، وقيل إنّ بغداد تميل الى ذلك شرط حصول العملية بعد انتهاء الانتخابات العراقية في ايار.
لكنّ واشنطن وعبر تيلرسون عملت على تشجيع انقرة على الانتهاء من عفرين وإنجاز حلّ مع الاكراد للتفرّغ لمواجهة ايران ألخطر الفعلي على مصالح تركيا في المنطقة، فبعد «داعش» كسبت ايران أوراقاً إضافية وهي تستفيد من كل أزمات المنطقة لتعزيز اوراقها، ما يستوجب وقف الحرب مع الاكراد لقطع الطريق على استفادة طهران، على حدّ ما نُقِل عن تيلرسون قوله لأردوغان.