Site icon IMLebanon

ترامب والنظام الأميركي

في غالب الأحيان تظهر المتغيّرات والتبدلات الشعبية في معظم الدول عند وقوع حدث مفصلي… قد يكون هذا الحدث أمنياً، سياسياً، اقتصادياً أو حتى اجتماعياً. وعادة ما تؤدي هذه التطورات الى إطلاق مكنونات الناس والشعوب سواء عبر التظاهر أو الاستنكاف أو الثورة على الامر الواقع.

ويبدو أنّ الولايات المتحدة الاميركية، تلك الدولة العظمى المتهمة دوماً من قبلنا بتحريك المجتمعات واستغلال الاحداث لترسيخ مصالحها، لن تفلت من هذا المخاض المؤلم والصحّي في آن واحد، مخاض قد يفتح أمامها آفاقاً سياسية واقتصادية واجتماعية جديدة من الصعب التكهّن بعواقبها حالياً…

ولعل التبدلات العميقة التي تضرب المجتمع الاميركي، كما غيره من المجتمعات، كانت تحتاج الى صدمة لتظهر، وهذ ما أحدثته نتائج الانتخابات الرئاسية الاخيرة، إذ إنه ما إن ظهرت نتائجها حتى طافت مكنونات شريحة من الاميركيين على السطح، معبّرة عن رفضها الصريح للنتائج التي أفرزتها، والتي أدّت الى فوز المرشح الجمهوري دونالد ترامب على المرشحة الديموقراطية هيلاري كلينتون.

وقد تجلّى ذلك في موجة تظاهرات عمّت عدداً من الولايات، إضافة الى الحملات الرافضة انتخاب ترامب التي انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي، واحتجاج معظم صانعي الرأي العام الأميركي والدولي على فوز هذا المليونير الذي هو ابن النظام الاقتصادي الحر ومجسّد الحلم الاميركي، والمرفوض أقلّه ظاهرياً من الطبقة السياسية التقليدية، علماً بأنّ منافسته هي ركيزة من ركائز النظام السياسي الاميركي التقليدي.

شكّل الاعتراض على انتخاب ترامب والمستمر ليومنا هذا، والذي اتخذ في بعض الولايات منحى عنيفاً، صدمة وتساؤلات لدى العديد من المراقبين، فهل صحيح أنّ الاعتراض هو على اسم الفائز وعلى أفكاره فقط؟

علماً بأنّ التاريخ الاميركي الحديث حمل الى سدة الرئاسة أسماء آتية من عالم غريب عن السياسة الى رئاسة الجمهورية. ففي العام 1980 انتخب الممثل الاميركي رونالد ريغن رئيساً بعد معركة مع الرئيس المنتهية ولايته جيمي كارتر من دون أن نشهد أيّ اعتراض شعبي يذكر.

صحيح أنّ ريغن كانت لديه خبرة سياسية كونه كان حاكم ولاية كاليفورنيا، إلّا أنّ خبرته وماضيه كانا غريبين عن التقليد الرئاسي الاميركي.

وهل من الممكن وضع الاعتراض الشعبي على وصول ترامب تحت خانة رفض النظام الذي تجرى على أساسه الانتخابات الرئاسية؟

ولكن بالعودة ايضاً الى التاريخ القريب نرى أنّ انتخابات العام 2000 والتي كانت تدور بين المرشح الديموقراطي آل غور والجمهوري جورج بوش الابن حسَمتها المحكمة الأميركية العليا، حينما أعلنت فوز الثاني بعد 35 يوماً من اجرائها، وكانت المرة الوحيدة في التاريخ الاميركي التي تحسم فيها المحكمة العليا اسم رئيس الولايات المتحدة.

يومها انتظر الجميع ظهور نتائج ولاية فلوريدا لحسم نتائج الانتخابات، ومع تأخّر ظهورها وتقارب غير مسبوق في أصوات الناخبين في هذه الولاية المهمة، دخل المرشحان في معارك قضائية حسَمتها المحكمة بإعلانها فوز بوش، علماً بأنّ خمسة من اعضائها التسعة يحبّذون الحزب الجمهوري الذي ينتمي اليه المرشح الفائز، وعلى الرغم من ذلك الجو المشحون لم ينزل الناس الى الشارع ولم يتظاهر أحد ضد النتائج او ضد قرار المحكمة.

من هنا، تعتبر الاحتجاجات الحالية ظاهرة جديدة في الحياة السياسية الاميركية الحديثة، وكأنّ مطلقيها قد استلهموا من التحركات الشعبية في البلدان التي ينقصها او لا تملك آليات تغيير ديموقراطية طرق تحرّكهم للضغط على المسؤولين… ما يدل على تبدّل مهم وعميق في مزاج الرأي العام الاميركي، الذي لم يعد يعتقد أنّ الديموقراطية بمعناها التقليدي (حكم الشعب بواسطة الشعب) تُعبّر عنه وعن احلامه.

لا بل هو يخاف منها خصوصاً أنها وبأسلوبها الحالي تستطيع أن توصِل رئيساً تُثار حول مواقفه الكثير من التساؤلات من دون أن تستطيع فرملة انطلاقته.

هذا الحراك لن يهدم الهيكل الاميركي، هو القائم على مجموعة من التعقيدات والتحالفات والمؤسسات القوية، ولكنّه جرس إنذار حقيقي لشيء ما يتحرّك داخل الولايات المتحدة الاميركية وقد يكون صدى لما يجري في العالم.

وبالطبع لن تعرقل الاحتجاجات وصول الرئيس العتيد الى سدة الرئاسة، إلّا في حالة انقلاب بعض مندوبي المجلس الانتخابي الكبير يوم 19 كانون الاول على إرادة ناخبي ولايتهم وإعطائهم أصواتهم لكلينتون بدل ترامب، وهنالك أمثلة في التاريخ الاميركي على مثل هذا الامر، ما يبدّل المشهد السياسي الحالي وأهداف المتظاهرين.

في كل الاحوال، لا يبدو أنّ الدولة العظمى تستطيع أن تعيش الحياة الديموقراطية الصحيحة مع هكذا نظام انتخابي رئاسي مريض.