في واحد من قراراته الصادمة، أمر الرئيس الأميركي دونالد ترامب بإنشاء فرع سادس للجيش الأميركي يكون في مثابة قيادة قتالية موحدة للفضاء، على غرار تلك التي أقامها للفضاء الإلكتروني. وفي وقت سابق من الشهر الجاري، طرح البيت الأبيض خطة طموحة لتدشين ما يعرف باسم «قوة الفضاء» بحلول العام 2020، بغية تحسين سبل مواجهة التهديدات الأمنية المحتملة في الفضاء. وبينما أيّد نائب الرئيس الأميركي مايك بنس الفكرة مطالباً الكونغرس بتبنّيها وتنفيذها، تخلى وزير الدفاع جيم ماتيس عن معارضته السابقة لها، مؤكداً حاجة بلاده الى التعامل مع الفضاء كساحة قتال آخذة في التطور، ليس فقط بين القوى العالمية الكبرى كروسيا والولايات المتّحدة، وإنما على مستوى دول صاعدة كالصين والهند وإسرائيل وكوريا الجنوبية.
واقترح ماتيس أن تكون القيادة الموحدة مرحلياً تحت إمرة سلاح الجو الأميركي الذي يشرف حالياً على غالبية النشاطات الحسّاسة في الفضاء. وتأتي تحركات ترامب لعسكرة الفضاء كخطوة مصيرية على درب المساعي الأميركية المزمنة والمتواصلة في هذا الصدد. فعلى رغم تداول فكرة عسكرة الفضاء على مستوى أدب ودراما الخيال العلمي خلال النصف الأول من القرن العشرين، إلا أن طروحات من هذا القبيل بدأت تعرف طريقها إلى التطبيق العملي أواسط حقبة الحرب الباردة في ستينات ذلك القرن مع بزوغ إرهاصات الجدل الاستراتيجي في شأن عسكرة الفضاء في أعقاب إسقاط السوفيات طائرة التجسس الأميركية من طراز «يو-2»، مطلع أيار (مايو) 1960، والتي كان الأميركيون يباهون بها الأمم في حينها ويطلقون عليها اسم «سيدة التنين»، إذ تمكّنت طيلة سنوات من التحايل على وسائط الدفاع الجوي والطائرات المقاتلة في الاتحاد السوفياتي السابق. فبعدما انطلقت الطائرة من قاعدة بيشاور العسكرية في باكستان في مهمة تجسس على المواقع الاستراتيجية داخل الاتحاد السوفياتي السابق، نجحت صواريخ «إس – 75 « الروسية في إسقاطها، وأوقفت السلطات الروسية قائدها وحصلت منه على معلومات ثرية تتجاوز تلك المتعلقة بأسرار الطائرة «يو -2»، وهي الحادثة التي شكلت نقطة تحوّل مفصلية في مسيرة واشنطن لعسكرة الفضاء.
وجاءت الأزمة الكوبية في 1962 لتنعش ذلك الجدل الاستراتيجي، حين انطلقت في أعقابها محادثات أميركية – سوفياتية بغية الاتفاق على استعمال أقمار اصطناعية لأغراض الرقابة من أجل تعزيز الأمن الدولي وتقليص أخطار الحروب النووية العرضية والضربات الاستباقية. ثم ظهر مصطلح «حرب النجوم» لما يعرف بـ»مبادرة الدفاع الاستراتيجي» SDI، التي أطلقها الرئيس الأميركي السابق رونالد ريغان في 23 آذار (مارس) 1983، بمشاركة دول حليفة لواشنطن مثل بريطانيا وألمانيا وفرنسا وإسرائيل، بهدف استخدام أنظمة دفاعية مثبتة في الأرض والفضاء لحماية الأراضي والأجواء الأميركية من أي هجمات محتملة من الاتحاد السوفياتي تستخدم فيها الصواريخ الباليستية النووية العابرة للقارات.
وفي العام 1993 ، تغيّر اسم تلك المبادرة إلى «منظمة الدفاع الصاروخي الباليستي» BMDO، ثم جاءت إدارة جورج بوش الابن وتابعت العمل في المشروع سراً تحت مسمى جديد هو «الدفاع الصاروخي الوطني». وفي مسعى منها للتحايل على انتهاك المشروع معاهدة الحد من انتشار الصواريخ المضادة للصواريخ الباليستية ABM المبرمة في العام 1972، انسحبت إدارة بوش الابن من هذه المعاهدة في العام 2002، كما أجهضت واشنطن مساعي روسيا والصين ودول أخرى لتمرير مبادرة صارمة عبر الأمم المتحدة تحول دون اندلاع سباق تسلّح في الفضاء، لتتخذ الصراعات في هذا الصدد بعدها سمتاً دولياً، بعدما أجرت واشنطن وموسكو تدريبات استخدمت خلالها أسلحة نووية وتقليدية، فضلاً عن تجارب إطلاق لصواريخ مضادة للأقمار الاصطناعية وعمليات تسيير الأقمار نفسها في المدار، فيما بدأت قوى أخرى كالصين والهند وكوريا الجنوبية وإسرائيل تلحق بهما على هذا الدرب. وجاءت خطوة ترامب لعسكرة الفضاء ضمن سياق توجه عام ومتواصل لعسكرة السياسة الأميركية. فمن جهة الإنفاق العسكري، رفعت إدارة ترامب النفقات العسكرية السنوية من 612 بليون دولار عام 2018 إلى 686 بليون دولار عام 2019، ما يمثل زيادة بنسبة 10 في المئة في موازنة البنتاغون عن العام الماضي. ويلاحظ أن ترامب دأب على الترويج لصفقات التسلّح خلال لقاءاته مع القادة الدوليين، فيما تؤكد دراسات معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام أن صادرات الولايات المتحدة من السلاح شكّلت من 34 إلى 50 في المئة من إجمالي صادرات السلاح العالمية خلال الفترة من 2013 إلى 2017، بينما بلغت ذروتها عند 70 في المئة تقريباً على مستوى الأسلحة كافة التي تم بيعها في العام 2011. وتوسعت صادرات الأسلحة الأميركية عموماً بنسبة 25 في المئة ما بين عامي 2013 و2017 مقارنة بالسنوات الأربع التي سبقت تلك الفترة، إذ زوّدت واشنطن 98 دولة بالأسلحة، التي توجهت 49 في المئة منها إلى دول الشرق الأوسط.
وبرّر ترامب إصراره على عسكرة الفضاء بالرغبة في استعادة هيبة الولايات المتحدة وتقوية مؤسساتها العسكرية والاقتصادية لاستبقاء التفوق العسكري الأميركي، خصوصاً في مواجهة روسيا والصين، إذ تسعى واشنطن إلى إعادة صوغ عقيدتها العسكرية بما يتيح لها تحقيق السيادة التامة على الفضاء، ومراقبة البرامج الفضائية لروسيا والصين والحيلولة دون تمكين الخصوم من استعمال مكتسباتهم في الفضاء بما يهدد الأمن الأميركي، فضلاً عن استخدام رادع الفضاء النووي كخيار تدمير شامل حال اندلاع حرب عالمية، علاوة على تأمين الأقمار الاصطناعية الأميركية وحرية التحرك الأميركي لاستخدام الفضاء.
وفي مسعى منه لشرعنة عسكرة الفضاء، حاول ترامب تفسير الفصل 51 من ميثاق الأمم المتحدة الذي ينص على أنه «يمكن الدولة استخدام القوة العسكرية لحماية نفسها من الأعمال العدائية»، وكذا الفصل الثالث من معاهدة الفضاء الخارجي الذي ينص على «أن القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة يتيحان استكشاف الفضاء الخارجي واستخدامه»، بما يبرر مساعي أية دولة لتطبيق القوة الفضائية لحماية أمنها ومصالحها. وبينما يصر ترامب على إجهاض أية محاولات لبلورة آليات قانونية تحظر عسكرة الفضاء، فإن التوجه المحموم الهادف إلى تأبيد الهيمنة العسكرية الأميركية على العالم قد يزج به نحو مزيد من العسكرة Militarization، بما يقوض الاتجاه الرامي إلى تفعيل آليات التسوية السلمية للنزاعات والأزمات الدولية المتفاقمة De militarization، الأمر الذي من شأنه أن يصيب البشرية بانتكاسة كفيلة بأن تضعها على شفا حقبة أشد سخونة من تاريخها المفعم بالصراعات الممتدة والمواجهات الدامية.