لا بأس بمحطة لاستقراء الأمور هكذا: الوضع الذي أمكن بنتيجته انضاج مناخات خارجية ايجابية سمحت بوضع حد للفراغ، وانتخاب رئيس، وتشكيل حكومة، هو وضع ثلاثي الأركان. فمن جهة، رغبة غربية وعربية، على تحييد الوضع اللبناني الداخلي عن الحرب السورية. ومن جهة ثانية، عدم اثارة الحكومات الغربية من الأساس لأي مشكلة جدية تتعلق بتدخل «حزب الله» في سوريا. ومن جهة ثالثة، اتصاف الحزب ومعه النظام السوري، بايثار عدم الرد على سلسلة الاستهدافات الجوية الاسرائيلية حتى اليوم، وهو ما يشكل استمراراً لتعليق المواجهة الميدانية المباشرة بين الحزب وبين اسرائيل منذ اكثر من عشر سنوات.
ايضاً، هذا الوضع الذي اتاح عهداً جديداً، واقلاعاً حكومياً له، حصل في الشهور الأخيرة من الولاية الثانية للرئيس باراك اوباما. ما كان تمرير الاستحقاقات الداخلية سيحظى بنفس المناخ المؤاتي له قبل ذلك، وربما ما كان سيحظى بنفس المناخ بعد ذلك. عدم اتضاح حسابات «ما بعد اوباما»، دفع الجميع باتجاه تسوية ما يمكن تسويته، رئاسياً وحكومياً.
الآن اوباما يغادر البيت الابيض. ودونالد ترامب يدخله. هذا ان استطاع ترامب تجاوز معركته المعلنة مع «مراكز القوى» الاستخبارية، التي دارت دورتها الاولى بشكل فضائحي قبل ايام معدودات، واذهلت الكوكب كله، فضلاً عن كرة الثلج القضائي التي ستتشكل شيئاً فشيئاً حول التدخل الروسي في الانتخابات الاميركية.
يبقى ان مجيء ترامب يقلب المعادلة عالمياً. في عهد اوباما، كان كل اخصام اميركا يتكلون على عقلانيتها، لاطلاق العنان لسياسات الجموح التي بلغت اوجها بضم روسيا لجزء من اوكرانيا لها بالقوة.
اما مع مجيء ترامب، فان الارتياب، ان لم يكن اكثر من ذلك، من مظاهر عدم اتزانه، انما تطبع مواقف الجميع في العالم تقريباً اليوم: دعاة التعقل والتروي والاعتدال، كما أصحاب الجموح ورواد المغامرة .
الاكتفاء فقط بما قاله الرجل ابان حملته الرئاسية لا يكفي لايضاح كيف سينطلق، خارجياً، في ولايته الاولى، اذا انطلق، وهل «سيسلّم» اوراقه في السياسة الخارجية عملياً، للمؤسسة الحاكمة، أم أنّه سيمارس كل ما اعطاه الدستور الاميركي من حقوق. في الحالة الثانية، الارتياب منه سيكون مبرراً.
لكن حتى، بالاستناد لما قاله ترامب غداة حملته، يستشف لين مع روسيا وشدة مع الصين، واللين مع روسيا يستجلب ضده ملفاً يحيكه اخصامه الاميركيون يجعلهم بمثابة متواطئ او خاضع لموسكو. اما الشدة مع الصين فقد أكدها بعد الانتخابات بتلقيه تهنئة هاتفية من الرئاسة التايوانية له.
لكن ما بين روسيا والصين ليس كما بين ايران والنظام السوري. بالعكس، في الجغرافيا السياسية، روسيا والصين لديهما الكثير للتباعد والسلبية في ما بينهما.
اما بين ايران والنظام السوري فتحالف حربي، ومع ذلك، اعتمد ترامب كلاماً اكثر تشدداً حيال ايران، وكلاماً «ليناً» تجاه النظام السوري، «ليناً» في لمحته العامة، ولكن مؤداه ان الموقف من النظام يتحدد بناء على قتال هذا النظام ضد «داعش» اي ضد الطرف الذي لم ينوجد النظام معه بعد في حرب متواصلة متطاحنة.
اللين مع روسيا والشدة مع الصين، واللين مع سوريا والشدة مع ايران: هذه محصلة كلام ترامب في السياسة الخارجية، احوال العالم، حتى الآن.
ولبنان يتأثر من كل هذا بأننا أمام ادارة اميركية جديدة ليست راضية عن الاتفاق النووي مع ايران، لكنها متطبعة مع فكرة استمرار النظام السوري، ولو استشف منها اشتراط ذلك باسهام النظام في التعاون معها ضد «داعش».
وبطبيعة الحال، حتى اذا ما اتيح لترامب ان يقود الولايات المتحدة في الفترة المقبلة، فانه سيضطر في كل الملفات للانطلاق من حيث انتهى سلفه اللدود اوباما، بما في ذلك في ما يتعلق بالاتفاق النووي مع ايران، انما بخلفية مختلفة، واكثر تحفظاً، خلفية يفترض ايضاً انتظار كيفية التعامل الايراني معها.
استباق مجيء ترامب لعب دوراً في تسهيل مرور الاستحقاق الرئاسي لبنانياً. لعب دوراً كذلك الامر في العمل الروسي للامساك بشعار التسوية السياسية في سوريا، وابعاد الغرب عن المسارات التي يمكن ان تستظل بهذا الشعار.
مع ذلك، التسوية السورية اصعب من ان تتحقق، او حتى من ان تنطلق، في فترة وجيزة من الزمن. وسيكون على العمل الروسي الايراني التركي بشأنها ان «يعاصر» مجيء ترامب الى البيت الابيض.
كذلك الامر بالنسبة للمسار اللبناني الداخلي. تحييد لبنان عن الحرب السورية ما زال يعكس تقاطع ارادات غربية وعربية، ويحيط الاقلاع الرئاسي والحكومي اللبناني بمناخ احتضاني. في المقابل، حرب الحزب في سوريا ستوضع على طاولة اي تفاوض جدي بين النظام والمعارضة في سوريا، وكذلك الحرب الاسرائيلية على الحزب، لا يمكن التعامل معها، خصوصا في الفترة المقبلة، على انها محكومة بشكل نهائي، بسياسة عدم الرد.
استباق وصول ترامب عزز مسارات لبنانية وسورية، من رئاسة العماد عون الى اعلان موسكو. مباشرة ترامب لمهامه محك أساسي لهذه المسارات.