في افتتاح الندوة الفكرية الرابعة لـ «منتدى أصيلة»، أثار عمرو موسى، الأمين العام السابق لجامعة الدول العربية، سلسلة قضايا قال إنها تشغل المنطقة وتمنع دولها من استعادة عافيتها السياسية والاجتماعية والثقافية والعمرانية.
وحول هذه القضايا ومتفرعاتها تحدث أربعون باحثاً ومحللاً وصحافياً عن أسباب الانتكاسات السابقة التي خلقت هذا الوضع المأسوي الذي يشل قدرات الشعب العربي ويغلل حاضره ومستقبله.
وكان من الطبيعي أن تركز كلمات المشاركين في الندوات على ضرورة الإسراع في إخراج المنطقة من الهوّة التي انحدرت اليها بعد انطلاق «الربيع العربي» في تونس وليبيا ومصر.
ويُستفاد من مراجعة أعراض هذا الانحدار أن «مجلس العلاقات الخارجية» في الكونغرس الاميركي رصد مظاهر هذا التردي مطلع الثمانينات. والدليل على ذلك أنه أصدر ثلاثين كتاباً تحت عنوان «الشرق الأوسط، والطريق نحو الرفاهية خلال العشر سنوات المقبلة.» وقد تضمنت تلك الكتب شرحاً مستفيضاً حول العثرات السياسية والنزعات القبلية التي يمكن أن تعيق مشاريع التنمية، وتحول دون استثمار الثروة النفطية بطريقة أفقية تستفيد منها الغالبية المحرومة أيضاً.
خلال تلك المرحلة الانتقالية العسيرة ظهرت عدة حركات ومؤسسات وطنية وقومية كانت تدعو الى التصدي للوضع المهترئ الآسن الذي يعاني منه العالم العربي. وشددت في مجملها على المطالبة بحلول جذرية لمعالجة المشكلات العميقة المزمنة في الشرق المضطرب.
وبين النشاطات الثقافية التي أفرزتها تلك المرحلة، برز «منتدى الفكر العربي» كجواب على الأسئلة الكثيرة التي يطرحها المواطنون في كل بلد عربي. لذلك اختار المؤسس الأمير الحسن بن طلال شخصيات علمية وفكرية لتشارك في هذا المنتدى، الذي سرعان ما تحول الى شبه جامعة عربية، من حيث تمثيل الأعضاء الذين وصل عددهم الى أكثر من عشرين عضواً.
وقد استمر نشاط المنتدى فترة طويلة من الزمن انتهت سنة 1994، أي بعدما جرى التوقيع على اتفاق وادي عربة.
ولكن تجميد نشاط المنتدى لم يمنع مؤسسه الأمير الحسن من استئناف مشاركته في مختلف الندوات المتعلقة بعمليات تحديث المجتمعات، وحثها على التكيّف مع القيم الإنسانية، عبر الحوار والاندماج الحضاري، ومختلف الوسائل الشرعية التي تؤمن انتشار الفكر المدني.
وبعد الانهيارات الوطنية والقومية التي عززت نمو حركات الانفصال واليأس والضياع في مختلف بلدان الجامعة العربية، حاول وزير مالية العراق السابق وأستاذ العلوم السياسية علي علاوي إنشاء تجمع مشترك يعمل على وضع تصور لكيفية انبعاث هذه الأمة من جديد. وقد نجح الى حد ما في تشكيل هذا التجمع على أمل اختيار مكان الانطلاق وانتقاء اللجان المحلية.
ويرى المحللون أن الانتفاضات المتواصلة التي بدأت في تونس وليبيا ومصر، وانتهت في سورية والعراق واليمن، لم تكن انتفاضات مترابطة أو منسجمة من حيث دوافعها وأهدافها.
ومع وجود خلاف عميق حول الأسباب التي ساهمت في تمزيق ثوب العيش المشترك، كان لا بد من انتعاش المؤسسة الطائفية والعنصرية التي تحكمت بكل المسارات وأحدثت الخلل العصي على الترميم والإصلاح.
وبسبب التشرذم الذي عصف بوحدة هذه الأمة، كان من المتوقع تهميش القضية المركزية، أي قضية فلسطين واستبدالها بقضية بعيدة من تحقيق دولة فلسطينية مستقلة. وقد ساهم الرئيس الاميركي دونالد ترامب بالتعاون مع رئيس وزراء اسرائيل بنيامين نتانياهو في إبعاد الرئيس محمود عباس عن موقع الشريك لأنه رفض «صفقة القرن.» أي إقامة الدولة الفلسطينية في قطاع غزة. لذلك انشغلت اسرائيل في البحث عن سلطة فلسطينية بديلة تكون مستعدة لارتكاب هذه الحماقة. وفي حال فشلت هذه المقامرة، فإن نتانياهو يهدد بعمل عسكري واسع ينتهي مجدداً بالاستيلاء على الضفة الغربية!وبما أن الموقف الإسرائيلي الرسمي يجب أن يرتبط دائماً بموقف البيت الأبيض، لذلك انتظر نتانياهو انتهاء قمة هلسنكي بهدف التنسيق مع ترامب حول المرحلة المقبلة.
ويبدو أن «الهفوة» السياسية التي ارتكبها الرئيس الأميركي أثناء المؤتمر الصحافي المشترك مع فلاديمير بوتين قد أحدثت هزة إعلامية غير متوقعة وصلت الى حد اتهام الرئيس الأميركي بالخيانة!
والسبب كما جاء على ألسنة المعترضين الكثر، أن ترامب برأ بوتين من كل تدخل في شؤون الولايات المتحدة، وألقى بالملامة على الاستخبارات الأميركية!
وأفضل ما قيل في تفسير تلك «الهفوة» المبرمجة، أن ترامب أعلن في المؤتمر الصحافي المشترك ما يحب أن يسمعه بوتين. وهكذا اعتُبِر ذلك الإخراج المتقن من ضمن التسويات والمساومات التي اتُّفِق عليها في اجتماع هلسنكي.
وحقيقة الأمر أن النشاطات السياسية التي قام بها كل من بوتين ونتانياهو هي التي مهدت لمحادثات قمة هلسنكي… وهي كتبت أجندة التنسيق وتبادل المواقع.
ومع أن إسرائيل لم تشترك في مباريات المونديال التي جرت في «استاد لوجنيكي»، إلا أن الرئيس الروسي تعمّد دعوة بنيامين نتانياهو وإيهود أولمرت كتغطية رياضية لمشكلة سياسية.
وبما أن سورية كانت الموضوع المهم في المحادثات الأميركية- الروسية، لذلك طلب بوتين من ضيفه رئيس وزراء اسرائيل استخدام علاقته الشخصية لدى ترامب بهدف رفع العقوبات الاقتصادية عن بلاده. أي العقوبات التي وضِعت على روسيا إثر ضمها القرم. وهو يرى أن هذه الخطوة تسهل له تمرير المطالب التي حملها ترامب عن سورية.
ومع أن المعلومات التي رشحت عن لقاء بوتين ونتانياهو بقيت رهينة الشكوك والحذر، إلا أن ما نشرته صحيفة «هارتس» كان أشبه بإعلان موجه إلى من يعنيهم الأمر. ذلك أنه كشف طبيعة الموقف الاسرائيلي الرسمي من إعادة الاعتبار لبشار الأسد، وتسليمه شؤون سورية -كل سورية- من جديد.
قبل مغادرته موسكو، تعهد نتانياهو لحاكم سورية الآخر بأن الرئيس السوري بشار الأسد سيكون في مأمن من إسرائيل. والسبب أنه أبقى الحدود هادئة معها، ولم يأمر بإطلاق رصاصة واحدة نحوها.
وفي معرض حديثه عن مرتفعات الجولان، ومدى تعرضها لهجمات الجهاديين الذي أعلنوا استئناف القتال، وعد بوتين بأن الطائرات الحربية الروسية لن تتدخل لنصرة فريق ضد آخر… ولن تتصدى للطيران الحربي الاسرائيلي فوق تلك المنطقة.
ولما سأله بوتين عن سبب الشكوى، قال نتانياهو إن مركز معلومات الاستخبارات أبلغه بأن الفرق السورية التي يحشدها النظام للسيطرة على المناطق الجنوبية من البلاد تضم قوات إيرانية، وأخرى من «حزب الله».
وادعى أيضاً أن ضباطاً من الحرس الثوري الإيراني يقودون هذه القوات التي ترتدي بزات الجيش السوري بغرض التمويه والتضليل.
وصارح بوتين ضيفه الإسرائيلي بالقول إنه «ليست لدينا نيّة معادية تجاهكم. ولكننا عقدنا تحالفاً استراتيجياً مع إيران يرمي الى المحافظة على الأسد وعلى نظامه».
وهنا ذكّره نتانياهو بالحديث الذي أدلى به في شهر أيار (مايو) حين الاحتفال بانتصارات الجيش السوري في حربه على الإرهاب. يومها قال بوتين: «مع بدء تنشيط العملية السياسية نرجح انسحاب القوات المسلحة الأجنبية من أراضي الجمهورية العربية السورية.»
وبعد أيام نُقل عن المتحدث باسم حكومة طهران بهرام قاسمي قوله: «لا يمكن أحداً أن يلزم إيران بالانسحاب. فالوجود الإيراني يستند الى دعوة الحكومة الشرعية السورية. وما دامت سورية تريد هذا الوجود، فإن ايران ستواصل مساعدة هذه البلاد.
ومعنى هذا أن الإسرائيليين متروكون لمصيرهم في مواجهة التحالف المؤيد للأسد، وأن خياراتهم محصورة بحلين: إما استمرار مقاتلة ايران في سورية بواسطة الطيران الحربي… أو إحياء اتفاق الفصل بين اسرائيل وسورية سنة 1974. وهذا الاتفاق ينص على عدم السماح لجيش الأسد بالدخول الى هضبة الجولان، وأن قوات تابعة للأمم المتحدة تفصل بين الجيشين بمسافة ستة كلم.
ويُستنتَج من كل هذا أن الجيش السوري لن يدخل هضبة الجولان، وأن القوات الغريبة المموهة لن تدخل أيضاً ولو ببزات عسكرية تحمل ألوان بزات الجيش السوري.
بقي السؤال المهم حول ما رشح عن قمة هلسنكي!
بعض ما رشح عن تلك الخلوة يُختصَر بسكوت ترامب عن ضم روسيا للقرم، مقابل تسهيل عودة الوجود الأميركي إلى سورية.
ولقد ظهرت فوراً نتائج تلك المقايضة بتوقيع رامي مخلوف مع إدارة إحدى أكبر الشركات الاميركية للاستشارات التي تعمل في الخارج…
والبقية تأتي!