منذ عام 1948، لم يسبق أن كانت سياسة الولايات المتحدة الأميركية في منطقتنا أكثر تماهياً مع العدو الإسرائيلي مما هي عليه اليوم. منذ عقود، الخلاف الوحيد بين تل أبيب وواشنطن محصور في نظرة الإدارة الأميركية إلى مصلحة إسرائيل. في غالبية المرات التي بدا فيها افتراق بين السياستين، كانت واشنطن تعارض نظرة قيادة العدو في تل أبيب إلى ما يحقق المصلحة الإسرائيلية الفضلى، لا لرغبة من الأميركيين في تحقيق مصالح قوى أخرى على حساب كيان العدو. هذا الأمر، يمكن اعتباره قاعدة لم تُكسر، منذ ما بعد العدوان الثلاثي عام 1956 على أقلّ تقدير. هي علاقة أشبه ما تكون بولاية الأب على ابنه. الأب، في هذه الحالة، يريد القول لابنه إنه الأكثر حرصاً عليه. في عهد دونالد ترامب، تبنّى الأب نظرة الابن لشؤونه. لم يعد ثمة فارق في تعبير كل من الفريقين عن سياستهما المشتركة. ربما لأن الظروف الموضوعية لهذا التطابق باتت مؤمّنة بالكامل. فالبيئة الاستراتيجية في الإقليم تغيّرت. بدأت تنقلب منذ الغزو الأميركي للعراق، وصولاً إلى انطلاق الربيع العربي وما تلاه.
المقارنة بين دونالد ترامب وأحد أسلافه تجعل الصورة أكثر وضوحاً. جورج بوش الابن كان، بلا شك، الرئيس الأميركي الأكثر إجراماً بحق أهل الشرق الأوسط، لكنه لم ينقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس، ولم يعترف بالسيادة الإسرائيلية على الجولان السوري. غطّى قتل ياسر عرفات، واجتياح الضفة… لكنه لم يقطع صلة بلاده بالسلطة الفلسطينية، ولا أوقف المساهمة الأميركية في ميزانية الأونروا. طوال أكثر من 6 عقود، حضنت أميركا إسرائيل، ووفّرت لها آليات التفوق، ومدّتها بالمال والسلاح والدعم السياسي والدبلوماسي، وجعلتها، في الكثير من الاحيان، ممراً إلزامياً للعرب الراغبين في خطب ودّ صناع القرار في واشنطن. لكن العدو الأميركي لم يكن يوماً أكثر التصاقاً بالعدو الإسرائيلي مما هو عليه اليوم.
في ظروف كهذه، قرر لبنان القبول بوساطة أميركية للتفاوض مع العدو. قد يُقال هنا إن إسرائيل هي التي قبلت، وإن لبنان لم يغيّر موقفه. الأمر سيّان، أقبِلنا، أم قبلت تل أبيب. نحن ذاهبون للتفاوض مع العدو، بوساطة أميركية. اختار لبنان أن يعتبر أميركا وسيطاً نزيهاً. طوال خمسة عقود، لم تكن واشنطن وسيطاً نزيهاً. لكنها في عهد ترامب، لم تعد قادرة على وصف نفسها بالوسيط، قبل أن يجرؤ أحد على اتهامها بالنزاهة. هي خلعت عنها صفة الوسيط إلى حدّ أن محمود عباس صار يرفض التفاوض! في هذا الزمن تحديداً، قررنا منح دونالد ترامب، ومجاناً، صفة الوسيط النزيه. ووهبناه، مجاناً أيضاً، مساراً تفاوضياً ترفضه السلطة الفلسطينية، والنظام الأردني. وأهديناه، مجاناً أيضاً، فصلاً للمسارين اللبناني والسوري! نتصدّق على حاكم الدولة الأقوى في العالم، بذريعة أن تفاوضنا، مع العدو الإسرائيلي، بوساطة العدو الأميركي، سيثبّت حقوقنا! أي حقوق؟ المساحة البحرية التي تبلغ مساحتها نحو 860 كلم مربّع، ونحو 13 نقطة برية؟ هي أراضٍ ومياه لبنانية يسعى العدو إلى «تشريع» احتلالها. يُدرك جميع المسؤولين أن العدو لن يعترف لنا بحقوق. و«الوسيط النزيه» لن يجبره على ذلك. ولدينا دليل عملي. الجزء الشمالي من قرية الغجر أرض لبنانية محتلة، باعتراف الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي، والعدو الأميركي نفسه. كيف نقبل بمباشرة المفاوضات قبل حصولنا على «بادرة حُسن نية» كالانسحاب من شمال الغجر؟ هذه ليست منطقة «متحفّظاً عليها». هي أرض لبنانية بلا أي لبس في ملكيتها. كان يمكن استخدام تلك الورقة قبل الموافقة على التفاوض مع عدو بوساطة عدوّ آخر. هي ورقة فرّطنا فيها، تماماً كما فرّطنا في أوراق القوة الأخرى. فمنطق التفاوض يزعم أن بقاء الحال على ما هو عليه اليوم سيؤدي إلى تكريس أمر واقع يمنح العدو الأراضي المتحفّظ عليها، والمساحة البحرية المسلوبة من لبنان. والذريعة هنا أنّ عدم ترسيم الحدود البحرية سيسمح للعدو بالاستفادة من النفط والغاز في البحر، ومنع لبنان من التنقيب عن الثروة الأحفورية. يكفي للرد على هذه الذريعة التذكير بأنّ التنقيب في البحر اللبناني سيجري في منطقة تبعد 25 كلم عن حدود المنطقة «المتنازع عليها». يكفي التذكير أيضاً بأنّ لنا قوة يمكن التلويح بها، وهي قوة المقاومة. وفي مقدورنا إجبار العدو على الابتعاد عن حدود منطقتنا التي حوّلها (بمساعدة سوء الإدارة اللبنانية وتحالفه مع قبرص) إلى «منطقة متنازع عليها». ولتحقيق ذلك، لا نحتاج إلى أكثر من «إجراء أمني»، داخل حدود المياه الإقليمية اللبنانية، في سياق خطاب واضح يهدف إلى منع الشركات الأجنبية من الاقتراب من مياهنا. الأمر نفسه ينطبق على البر. العدو يبني جدراناً في أراضٍ «متنازع عليها». حسناً. لماذا لا يُعطي المجلس الأعلى للدفاع الجيش اللبناني أوامر واضحة بإطلاق النار على ما يقيمه جيش الاحتلال في هذه الأراضي؟ المزعج في هذا الخيار أنه الخيار البديهي الذي جرى التخلي عنه، من دون أن يوضح لنا أحد السبب الكامن وراء ذلك. سيتذرّع البعض بأن عدم التفاوض، واللجوء إلى خيار القوة أو مجرّد التلويح بها، سيؤدي إلى إبقاء الحال على ما هو عليه. حسناً، ليبقَ الحال على ما هو عليه، ولتبقَ المياه والأراضي «المتنازع عليها» متنازعاً عليها. يمكننا التنقيب عن النفط والغار في طول البحر وعرضه، شمال المنطقة «المتنازع عليها». أن يبقى الحال على ما هو عليه، أفضل، بما لا يُقاس، وبكافة المعايير، من منح عدوّنا ورقة مجانية، يريد استخدامها في وجه فلسطين والأردن وسوريا، ولتزييت ماكينة «صفقة القرن» التي لا تزال معطّلة. وقبل فلسطين والأردن وسوريا، يريد استخدامها في وجهنا. فلبنان، قبل غيره، سيدفع ثمن ما يُطبَخ بين صهر ترامب وابن سلمان.