خلال القسم الأكبر من الحملة الرئاسية الأخيرة، تمكّن مناهضو دونالد ترامب من التعاطي مع ترشّحه للرئاسة على أنّه ضرب من المزاح، وكانوا متأكدين تماماً من أن هيلاري كلينتون ستهزمه. لكن ما إن تمّ انتخابه، وإن بفارق صغير جدّاً من أصوات الناخبين، حتى وردت تقارير بأن أعداداً غير مألوفة من الناس بحثت عبر «غوغل» على لفظة surreal الإنكليزية، وترجمتها سوريالي، إذ بدت كالأكثر تناسباً لاختصار الشعور السائد بين الناس بأنّهم بعيدون كلّ البعد عن الواقع مع انطلاق عهد ترامب الجديد. فها إنّ شخصية تلفزيونية من أصحاب البلايين، ممّن لا يملكون أي خبرة في السياسة وأيّ احترام للحقيقة، تتحوّل إلى الرجل الأكثر نفوذاً على الأرض، فيمارس سلطة هائلة على حياة مئات الملايين من الناس، بما يشمل طبعاً أولئك اللاجئين الشرق أوسطيين اليائسين لبلوغ برّ الأمان في الولايات المتّحدة عينها.
فما الذي نعرفه فعلاً عن هذا الرجل، وعن شخصيته، وعن مستشاريه، كوسيلة للتوصّل إلى بعض الاستنتاجات، لنحاول أن نعرف ما هي القيود التي سيفرضها كزعيم، والسياسات التي من المرجّح أن يعتمدها؟
مع إلقاء نظرة أولى إلى ترامب، سنرى أنّنا أمام مستبدّ حقيقي، وقد تجلّى ذلك للمرة الأولى في مناظراته مع هيلاري كلينتون، حيث ظهر كرجل ضخم وطويل القامة، تكاد الابتسامة تغيب عن وجهه تماماً، ويتّسم بعينيه الصغيرتين الشرّيرتين، وبذقنه الناتئ الذي ينكمش ويتحرّك على ما يبدو وفق مزاجه.
أمّا العنصر الآخر الأكثر حركةً فيه، فذراعاه، اللتان تتنقّلان باستمرار من مكان إلى آخر لإثبات وجهة نظر محدّدة، فتراه يلوّح بهما في الهواء تارةً، ويلفّهما حول قلبه تارةً أخرى، إذ يطلب من جماهيره «تصديق» أي كلام يحاول أن يبيعهم إياه.
وفي شكل عام، يتّسم أسلوبه الكلامي بحد ذاته بكونه حافلاً بمزاعم كبيرة ومسرفة في الكثير من الأحيان – على غرار تأكيده أن «العالم يختبر حالة فوضى» أو أن هيلاري كلينتون حصلت على «ملايين» الأصوات غير المشروعة – ليعود ويضيف على مضض تعديلات إلى كلامه، فيدرج كلمات على غرار «ربما» و «على الأرجح»، مبرراً أقواله بأمر أكّده في سيرته الذاتيّة التي صاغها له كاتب ظل، وعنوانها «فن الصفقة»، وهو أنّ المغالاة.. وهي نوع بريء من المبالغة.. فعّالة جداً لترويج المرء عن نفسه. وقد نضيف إلى ما سبق عادةً أخرى من عوائد ترامب، وهي أنّه يسحب موقفه الأساسي ويعود إلى موقف أكثر منطقيّةً، في حال وجد نفسه في مواجهة وضع صعب. وكذلك، نرى بوضوح أنّ الرئيس وطاقم العاملين لديه مهووسون بالأعداد، على غرار أعداد الناس المتوافدين إلى تجمّعاته، في مواجهة أولئك الذين قدموا إلى تجمّعات منافسيه، بما يشمل، إن قمنا باستعادة الحوادث، باراك أوباما.
ولا بدّ أيضاً من الكلام عن الأهمية التي يعول عليها ترامب للولاء والثقة، وقد ظهر ذلك جلياًّ عندما وظّف أفراداً من أسرته ضمن فريق العاملين في البيت الأبيض، إلى جانب ولائه الشخصي إلى كلّ من ساعده على تحقيق انتصاره المفاجئ في الانتخابات، وقد باتوا اليوم مستعدّين لاختلاق الأكاذيب لمصلحته، ولوم جميع الآخرين، وبالأخص الصحافة، على أخطاء سيّدهم ومشاكله والصعوبات التي يواجهها، لتصبح مراقبتهم أثناء عملهم تجربة مثيرة للتوتّر، إذ يغفلون عن الرد على أسئلة الصحافيين، ويجدون أنفسهم مضطرّين للدفاع عن كلمات استعملها ترامب بلغة غير رئاسيّة، عندما تكلّم عن الجسم القضائي، وأظهر انعداماَ هائلاً في الكفاءة عندما أصدر أمراً تنفيذياً فاشلاً بمنع الهجرة من عدد من الدول ذات الغالبية المسلمة، مع غياب الوضوح شبه التام في تصرّفاته، بما يشمل عدم إصداره لأيّ توجيهات للمسؤولين في شأن كيفيّة تنفيذ الأوامر التي أصدرها.
وكأنّ هذا كلّه لا يكفي، يتّضح أكثر فأكثر أنّ الرئيس الجديد كسول فكرياً، وقراءته للتاريخ الأميركي سيئة جدّاً، ناهيك عن أنّه يجهل تفاصيله، ولا يعرف الكثير عن تفاصيل المسائل المتبقّية حول العالم. ولعلّ ذلك يلعب دوراً لمصلحته الشخصيّة أحياناً، متى تعلّق الأمر مثلاً بجهله للقوانين التي وجّهت معظم السلوك الرئاسي السابق، بالنسبة مثلاً إلى تضارب المصالح الذي جعله يتمسّك بعدد كبير من أصوله الشخصيّة، بدلاً من إيداعها بثقة عمياء كما فعل معظم الرؤساء الذين سبقوه. لكن في أحيان أخرى، تتحوّل قلّة معرفته بالأمور إلى مصدر إحراج ليس إلاّ، كما حصل مثلاً خلال زيارة رئيسة الوزراء البريطانيّة تريزا ماي إلى واشنطن مؤخراً ، حيث بدا أنّ معرفة ترامب مبهمة بونستن تشرشل، قائد البلاد العظيم في فترة الحرب، الذي يبرز تمثاله متجلياً في البيت الأبيض.
وبالتالي، لا عجب إن كان هذا العدد من الأميركيين، ومن الناس في أرجاء العالم كافةً، يشعرون حتّى الآن بالتوتر والحذر حيال هذا الرجل المتهوّر الذي يقود العالم الحر، ولا ينفك يروّج لنفسه، آخذين بالحسبان، على راحتهم، المفهوم التاريخي للضوابط والتوازنات التقليدية في بلاده، مع أنّه هو بنفسه غافل عنها أو محقّر لها في الكثير من الأحيان. ومع أنّ ترامب ظاهرياً غير مستعد لتغيير سلوكه، يبدو عدد من أعضاء مجلس وزرائه المحنّكين فاهمين لما هو ضروريّ لتلبية الوعود الانتخابية الأوسع نطاقاً على صعيد الوظائف، وسياسة الطاقة، واستبدال قانون الرعاية الصحية الميسّرة الذي وضعه أوباما، وإعادة صنع علاقة الولايات المتحدة مع المكسيك، جارتها الجنوبية.
ولا بد من الكلام أيضاً عن المنطق الصارم الذي يسود الجدول الزمني لانتخابات مجلس النواب، الجمهوري بغالبيّته، المزمع إجراؤها بعد أقلّ من سنتين، وهو ليس بالوقت الكافي لإقناع الناخبين بأن الرئيس يتّخذ خطوات فعليّة «لاستعادة عظمة الولايات المتّحدة»، لا سيما في مواجهة المعارضة الشعبية المتزايدة والمنظّمة أكثر فأكثر، وبالتحديد بين الشباب.
هذه هي الوقائع، وفق ما يقال، ولا بد من أن نتصرّف حيالها، وفق قدراتنا.