Site icon IMLebanon

إدارة ترامب.. بين النظري والعملي

لم تنسحب الولايات المتحدة من الاتفاق الموقع صيف العام 2015 بين إيران ومجموعة الخمسة زائداً واحداً، أي البلدان الخمسة ذات العضوية الدائمة في مجلس الأمن وألمانيا. لكن ذلك لا يحول دون الاعتراف بأنّ هناك سياسة أميركية جديدة تجاه هذه الدولة عبّر عنها الرئيس دونالد ترامب في خطابه الأخير. تقوم هذه السياسة على وضع الاتفاق في شأن الملفّ النووي الإيراني في إطار أوسع. هذا الإطار، الذي يشمل الصواريخ الباليستية، هو سلوك النظام خارج الحدود الإيرانية وحتّى تجاه الإيرانيين أنفسهم.

هناك للمرّة الأولى، منذ إعلان «الجمهورية الإسلامية» في إيران، في العام 1979، إدارة أميركية تعرف تماماً ما هي إيران وتقول ما تعرفه. هناك وصف متكامل ورصد دقيق من الرئيس الأميركي لكلّ النشاطات التي تقوم بها إيران داخل حدودها وخارجها. لم تكن المشكلة يوماً في الملفّ النووي الإيراني. المشكلة لا تزال في السلوك الإيراني. لذلك ليس صدفة أن يكون ترامب فتح في خطابه كلّ الملفات الإيرانية بدءاً باحتجاز الديبلوماسيين في السفارة الأميركية في طهران رهائن لمدة أربعمئة وأربعة وأربعين يوماً ابتداء من تشرين الثاني (نوفمبر) 1979. لم تطلق الرهائن إلّا بعد الانتخابات

الأميركية التي تغلّب فيها رونالد ريغان على جيمي كارتر، الذي وضع الأسس للتراجع الأميركي أمام العدوانية الإيرانية عندما امتنع عن الإقدام على أيّ خطوة جدْية ردّاً على احتجاز الديبلوماسيين الأميركيين باستثناء عملية إنقاذ فاشلة انتهت بكارثة سقوط هليكوبتر أميركية في صحراء طبس الإيرانية.

بات معروفاً إلى أين أوصلت إدارة كارتر الولايات المتحدة التي لم تستطع في أيّ وقت الردّ على الاستفزازات الإيرانية، حتّى في عهد ريغان الذي شهد تفجير مقرّ المارينز في بيروت يوم الثالث والعشرين من تشرين الأوّل (أكتوبر) 1983 وقبله بأشهر قليلة تفجير السفارة الأميركية في العاصمة اللبنانية. قتل في عملية تفجير السفارة التي كانت في منطقة عين المريسة البيروتية عدد كبير من ضباط وكالة الاستخبارات المركزية (سي. آي. أي) العاملين في الشرق الأوسط. على رأس هؤلاء بوب ايمز الذي كان أوّل من حذّر إيران من احتمال تعرّضها لهجوم عراقي في عهد صدّام حسين. الرواية الكاملة عن تحذير ايمز للمسؤولين الإيرانيين من الهجوم العراقي في كتاب «الجاسوس الطيّب» (the good spy) للكاتب كاي بيرد.

لم يعد سرّاً بالنسبة إلى الإدارة ما الذي فعلته إيران منذ العام 1979 وصولاً إلى اعتبارها «دولة مارقة» حسب تعبير دونالد ترامب. لم يفوّت الرئيس الأميركي ذكر أي دور قامت به إيران على أي صعيد كان وذلك لتبرير تحولّها إلى رمز لـ«الإرهاب». لم يتردد في الإشارة إلى التعاون بين إيران و«القاعدة» أو لعلاقتها بكوريا الشمالية. ولم يفوت أيضاً الفرصة كي يشير مرّات عدة إلى الدور الذي تلعبه الميليشيات المذهبية التابعة لإيران، بما في ذلك ميليشيا «حزب الله». أكثر من ذلك، لم يتردد في التركيز على الدور الإيراني في دعم بشّار الأسد في الحرب التي يشنّها على الشعب السوري.

نظرياً، كان خطاب ترامب خطاباً شاملاً وضعه له أشخاص يعرفون تماماً وبالتفاصيل المملة ما هي إيران وكيف شاركت في عملية الخبر للعام 1996 التي قتل فيها عسكريون أميركيون في المملكة العربية السعودية. ما قاله ترامب يمكن أن يصدر عن أيّ سياسي لبناني أو عربي يعرف تماماً ما ارتكبته إيران في بلد مثل لبنان.

لا غبار على خطاب ترامب من الناحية النظرية، خصوصاً أنّه جاء نتيجة لمراجعة للسياسة الأميركية استمرّت نحو تسعة أشهر. ولكن ماذا عن الناحية العملية؟

ثمّة أمور عدّة تحتاج إلى التوقّف عندها. من بين هذه الأمور عدم وضع «الحرس الثوري» الإيراني في مصاف المنظمات الإرهابية. ما الذي جعل الإدارة الأميركية تتراجع عن ذلك وتكتفي بالكلام عن عقوبات على «الحرس الثوري». مثل هذا السؤال لا يزال يحتاج إلى جواب، أقلّه إلى توضيحات ما تساعد في فهم مدى جدّية ترامب في الدخول في مواجهة مع إيران ومع مشروعها التوسّعي. ما يطمئن إلى أن الرئيس الأميركي يعي تماماً ما الذي يفعله إشارته إلى ضرورة رص الصف بين الولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة. هذا الكلام يعني بكل بساطة أن أميركا غيّرت استراتيجيتها الشرق أوسطية ولم تعد في وارد استرضاء إيران من أجل المحافظة على الاتفاق في شأن الملفّ النووي الإيراني الذي لم يعد صلب السياسة الأميركية في المنطقة ومحورها، كما كانت عليه الحال في عهد باراك أوباما.

حسنا، قال الرئيس الاميركي ما يريد قوله. هناك اعتراضات أوروبية وروسية وهناك اعتراضات أخرى من داخل الإدارة نفسها. هناك جناح في الإدارة ما زال يفضّل اعتماد التهدئة والعمل على متابعة استرضاء إيران. وهذا يدلّ على قوة اللوبي الإيراني في واشنطن ومدى فاعليته.

يبقى في نهاية المطاف، كيف يمكن لترامب الانتقال من التنظير إلى التنفيذ، أي من النظري إلى العملي. سيعتمد الكثير على ما إذا كانت هناك خطط عسكرية لتقطيع أوصال الوجود العسكري الإيراني في المنطقة، خصوصاً في منطقة الحدود السورية – العراقية. ليس بعيداً اليوم الذي سيتبيّن فيه هل خطاب ترامب ثمرة مشاورات بين كبار العسكريين الذين يشغلون مواقع مهمّة في الإدارة مثل الجنرال هربرت مكماستر مستشار الأمن القومي ووزير الدفاع جيمس ماتيس ورئيس الأركان في البيت الأبيض الجنرال جون كيلي، أم أنّه مجرد تسجيل لموقف؟

المهمّ أن أميركا أعادت اكتشاف إيران ما بعد الشاه وأظهرت أنّها تعرف تماماً ما هو الدور الذي تلعبه في المنطقة. بين الانتقال من النظري إلى العملي مسافة كبيرة ليس معروفاً هل إدارة ترامب على استعداد لقطعها. الأكيد أن سوريا هي أحد الأمكنة التي سيظهر فيها هل من جدّية أميركية أم لا.