تنطلق الديبلوماسيّة الأميركيّة الأسبوع المقبل الى عواصم عربيّة وإلى تركيا وأوروبا محصَّنةً بعقيدة العزم والقوة كركيزة للصّفقات والتفاهمات مع الإيضاح بأنّ «أميركا العظمى» لن تتراخى مع مَن تَعتبرهم مصدَرَ تهديدٍ لرتبة العظمة وللمصالح الأميركيّة الحيويّة. مستشارُ الأمن القومي هربرت مكماستر بات أقوى أركان إدارة ترامب وهو سيتوجَّه الى تركيا لإبلاغ الرئيس رجب طيب أردوغان ما هي آفاقُ وحدودُ صبر الولايات المتّحدة وحلف شمال الأطسي إزاءَ التحالفات والمغامرات التركيّة، بالذات عبر الساحة السوريّة ومن ضمنها الشراكة التركيّة- الروسيّة- الإيرانيّة. مكماستر ووزير الدفاع جيمس ماتيس سيُخاطبان أوروبا والعالم عبر «مؤتمر ميونيخ للأمن» في ألمانيا والذي يتحوَّل تقليدياً الى منصّة لإطلاق الاستراتيجيّات وغُرفٍ مغلقة لإبرام الصّفقات. وزير الخارجية ريكس تيليرسون سيزور أيضاً تركيا في جولة تشمل الكويت حيث يُعقد مؤتمرُ إعادة إعمار العراق، وكذلك الأردن ومصر ولبنان حاملاً ملفات متعدّدة تُدشّن شخصيّته الجديدة المتجانسة تماماً مع الفريق المنتصر في إدارة ترامب الذي وضَعَ أسُسَ الاستراتيجيّة الأميركية البعيدة والقريبة المدى نحو روسيا والصّين وتركيا وإيران والدول الخليجية العربية. هذه الزيارات تأتي بالتزامن مع ما يُسمّى بعودة رياح الحرب الباردة بين الولايات المتّحدة وروسيا، ومع مؤشّرات غامضة حول ما تَنويه إسرائيل نحو إيران في سوريا ولبنان، ومع تضعضعٍ في العلاقة التركية- الإيرانية – الروسيّة، ومع انصبابٍ على العمليات الإنتخابية في مصر والعراق ولبنان. توقيتُ الجولات الديبلوماسية الأميركيّة الى الشرق الأوسط لافت، إنّما الأنظارُ الأميركية مصوّبةٌ بالدرجة الأولى نحو روسيا ومشاريعها في سوريا بالذات بأبعادها الإيرانية وإفرازاتها في العراق واليمن ولبنان.
في المحطة التركية سيُركّز المسؤولون الأميركيون على العمليّات التركية العسكرية في عفرين ومنبج داخل سوريا والتي تتزامَن مع تصريحاتٍ تصعيديّة ضدّ القوات الأميركية في سوريا ومع إجراءاتٍ عسكريّة واسعة ضدّ الأكراد. تتزامَن أيضاً مع جهود إنقاذ العلاقات الثنائيّة التركيّة – الإيرانية وتوطيد العلاقات التركية- الروسيّة. أنقرة العضو في حلف شمال الأطلسي (ناتو) ستَستمع إلى كلامٍ واضح من أركان إدارة أميركيّة عقَدَت العزم على تنفيذ الرؤية الاستراتيجيّة التي تبنّتها وليست في وارد المساومات كما كانت الإدارة السابقة. إنّها إدارة تنطلق من مفهوم القوّة كأساسٍ للتسويات والتفاهمات وهي غير راغبة بالانحناء أمام أولويّات الآخرين أو ظروفهم الخاصّة.
حتى مع الشركاء الأوروبيّين، إنّ المسؤولين الأميركيّين يعتزمون إبلاغَ أقطاب «حلف شمال الأطلسي» أنّ المطلوب منهم تسديد نفقات الشراكة الاستراتيجيّة في شتّى الأماكن والمجالات. هذا يشمل تدريباتٍ بعيدة المدى في العراق، والالتزام بعقوبات ضدّ إيران، والالتحاق بتوجيه ضرباتٍ عسكرية للتحالف الدولي في سوريا ضدّ مواقع النظام الذي تتّهمه واشنطن باستخدام الأسلحة الكيماوية في إدلب والغوطة الشرقية. لذلك مهمّ ما سيقوله مكماستر وماتيس في ميونيخ لأنّه يأتي مع استراتيجيّة دفاع وطني عنوانها الأوّل هو الانتصار والجهوزيّة العسكرية الكاملة للتفوّق على المؤسّسة العسكرية الروسية والصينيّة.
موسكو بدأت تُفكّر عميقاً في كلّ ما هو آتٍ من واشنطن في عهد الرئيس دونالد ترامب. فبعدما أبلغ جيمس ماتيس الى مجلس النواب الأميركي أنّ «العقيدة النوويّة» الجديدة لبلاده هدفها تعزيز الموقف التّفاوضي للديبلوماسيّين الأميركيّين لإقناع روسيا بوقف انتهاكات معاهدة الحدّ من الأسلحة الذريّة المتوسّطة المدى للعام 1987، أعربت موسكو عن استعدادها لحوارٍ بنّاء مع واشنطن ودعت الى مناقشة الشكاوى في هذا الصّدد.
وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف تحدّث بلغة «لا نريد تصعيد المواجهة» وأعلن أنّ موسكو مستعدّة لحوارٍ بنّاء مع واشنطن. هذا الحوار الذي تُريده موسكو ليس مرفوضاً أميركياً إنّما المشكلة اليوم هي في قواعد وأسُس الحوار في أجواء تفتقد الثقة.
ما لم تتفاهم روسيا والولايات المتّحدة، ستعصف أجواء الحرب الباردة أكثر بالذات عبر الساحة السورية. المشكلة ليست ثنائيّةً لأنّ الحديث بينهما سهل نسبياً في شأن الموافقة على احترام المصالح المتبادَلة والإقرار باستمرار تواجد القواعد الأميركية والروسية. فالتوتّر وازدياد الافتراق أتى بسبب المشروع الإيراني في سوريا حيث أصبحت «عقدة « إيران كما كانت «عقدة» بشار الأسد- كلاهما يحول دون التفاهم الثنائي بين واشنطن وموسكو.
حيرة موسكو تنبع من حساسيّة ضدّ التخلّي عن الحلفاء الذي عيَّرت به الولايات المتحدة وبراغماتية تطوير العلاقة الثنائية المهمّة لها مع الولايات المتحدة. ثمّ إنّ موسكو لا تريد أن تخسر في سوريا ما كسبته من مكانة في حال قرَّرت إدارة ترامب استنزافَها في سوريا. والى حدٍّ ما يُمكن القول إنّ اميركا تتدخّل في الانتخابات الروسية من خلال حَجب ذخيرة الانتصارالقاطع عن الرئيس فلاديمير بوتين وتذكيره بنموذج الاستنزاف في أفغانستان ضدّ الاتحاد السوفياتي.
على الصعيد الاستراتيجي الأوسع إنّ الرسالة من البيت الأبيض الى الكرملين هي: لا مجال لاستعادة روسيا مرتبة الدولة العظمى التي جرَّدت الولايات المتّحدة الاتّحاد السوفياتي منها لتَستفردَ بالعظمة. لا مجال لعودة ما عُرف بالدولتين العظميَين.
على الصعيد الإقليمي والبراغماتي، تقول إدارة ترامب لموسكو إنّ الشريك السابق الرئيس باراك أوباما ولّى عهده ولن يتمتَّع السياسي المخضرم سيرغي لافروف بلغة تطويع نظيره جون كيري كما فعل بحنكة. ريكس تيليرسون أعادَ اختراعَ نفسه طبقاً للوصفة التي تمّ تقديمُها له إذا أراد الاحتفاظ بملفّ وزارة الخارجية.
تيليرسون يجول في الشرق الأوسط مؤهّلاً بعدما توافق مع أعضاء الإدارة الآخرين بأنّه لن ينحَرفَ عن الاستراتيجيّة والعقيدة والرؤية والقواعد الجديدة للمفاوضات.
محطّته في مصر والأردن والكويت محطة زيارة لشركاء استراتيجيّين ولن تكون صعبة. إنّما لبنان موضوع آخر ولن يكون سهلاً. ذلك أنّ تيليرسون ذاهب الى بيروت برسالة جازمة للسلطات اللبنانيّة خُلاصتها أنّ أمن لبنان مهمّ لواشنطن، لكنّ قرارها الاستراتيجي الصارم هو عدَم التساهل مع «حزب الله»، طالما هو في علاقته التحالفية مع إيران.
بكلامٍ آخر، إنّ ما يحمله تيليرسون الى رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة ورئيس البرلمان فحواه: إفهمونا. لا تُفكّروا أنّ تبريرات تحالفاتكم وذرائع هشاشة بلدكم ستجعلنا نتفهَّم أو نوافق على تجاوزاتكم أو خضوعكم لما يُمليه «حزب الله» داخلياً وما يُصدّره خارجياً من تهديدات لأمن الشركاء في دول الخليج. هذه سياسة ثابتة. إفهمونا. أنتم لستم في عهد أوباما.
فالرجل آتٍ من الأرجنتين حيث أطلق الحملة على «حزب الله» في أميركا اللاتينية لتطويقه اقتصادياً وقضائياً، وهو ليس آتياً الى بيروت للمساومات أو لتوفير الغطاء. إنّه آتٍ الى الأطراف اللبنانية الحكوميّة والمصرفيّة والحزبيّة برسالة: إرفعوا الغطاء الذي يُضفي الشرعيّة على «حزب الله»، وإلّا أنتم أيضاً في الواجهة.
وزير الخارجية الأميركية لا يتوجَّه الى لبنان لفتح جبهة حربٍ عسكرية ضدّه وإنّما لإبلاغ كلّ مَن يَعنيه الأمر أنّ الحرب الاقتصادية ستطاله إذا لم يَستدرك ويفهم الجدّية الأميركية.
ما ليس واضحاً له علاقة بغايات وقرارات إسرائيل. إنّها تُصعِّد ميدانياً في موضوع الصواريخ الإيرانية التي يمتلكها «حزب الله» داخل الأراضي اللبنانية فيما تبني جداراً على حدودها مع لبنان. مثل هذه الإجراءات تُثير القلق وتدعو الى المخاوف من حربٍ آتية. لكنّ قرار الحرب الإسرائيلي يتوقّف عند ما إذا كانت إسرائيل قرَّرت أنّ الفرص المتاحة للتّخلص من صواريخ «حزب الله» لها الأولوية على التّهادنية التي تحكَّمت بالعلاقة الإيرانية – الإسرائيلية حتى الآن. والرّد على هذا السؤال عند إسرائيل وإيران.