لبى دونالد ترامب دعوة الرئيس المكسيكي أنريكي بينيا نييتو، في خطوة نحو الجارة الجنوبية للولايات المتحدة تخفف من وقع الخطب النارية للمرشح الجمهوري الذي توعّد لدى فوزه بالرئاسة ببناء جدار فاصل مع المكسيك وبطرد عشرات آلاف المهاجرين غير الشرعيين. وإذا أخذنا في الاعتبار أن نييتو وجّه الدعوة أيضاً إلى المرشحة الديموقراطية هيلاري كلينتون، فنحن أمام «تدخُّل» في الانتخابات الرئاسية الأميركية، من باب التأثير المتبادل بين الجارين والكشف أن للرئاسة المكسيكية تأثيراً في اختيارات ملايين الناخبين الأميركيين ذوي الأصول اللاتينية.
ولا نستغرب «جولة» ترامب، وربما كلينتون، خارج الحدود بحثاً عن أصوات المقترعين الأميركيين، فالولايات المتحدة دولة جاليات تأتلف في كيمياء غير مسبوقة، فهي روح تختصر أرواحاً، تلتقي في إطار دولة قانون وحريات من دون أن تفقد خصائصها الأولى. بهذا المعنى تبدو أميركا نسيجاً لأرواح إنكليزية وهولندية واسكوتلندية وألمانية وفرنسية وروسية ويهودية (من أصول متعدّدة) ولاتينية وإيطالية وصينية ويونانية وسورية- لبنانية. هذه الـ «أميركا» ارتقت بالحرية والقانون لتتبوأ قيادة العالم، خصوصاً بعد التراجع البريطاني- الفرنسي الذي أعقب حرب السويس 1956، وبعد انهيار المعسكر الاشتراكي «السوفياتي» مطلع تسعينات القرن الماضي.
كيف لدولة هذه صفاتها التكوينية أن تنتخب رئيساً بأصوات الأميركيين وحدهم، خصوصاً أن الفائز سيكون، على رغم التحفظات، رئيس العالم، أو الرئيس الأكثر تأثيراً في دول العالم وشعوبه؟ نحن أمام إمبراطورية رومانية تستعاد في عصرنا، مع الفارق أن الإمبراطورية القديمة كانت «تسمح» بصعود قياصرة من مناطق بعيدة، مثل سورية وليبيا، وأن الإمبراطورية الجديدة تقتصر على رؤساء من داخل الولايات المتحدة ينتخبهم مواطنون أميركيون، ولا تملك المناطق البعيدة سوى تأثير ضئيل، ثقافي (خصوصاً من أوروبا) واقتصادي استراتيجي (من أسواق السلاح والتكنولوجيا).
لن نتخيل لبنانياً يشارك في انتخاب رئيس أميركا، فيما يعجز عن انتخاب رئيس لبلده، وكذلك الأمر في بلاد كثيرة «يحكمها» الرئيس الأميركي ولا تملك تأثيراً في انتخابه أو في تحصين نفسها من سلطته عندما ينجح. نحن في عالم مركّب يبدو للوهلة الأولى قرية يتولى أمرها «عمدة» أميركي، فيما هو في الحقيقة عالم مترامي الأطراف ومعقد ومهدد بالتمزّق أشلاء ميكروسكوبية.
وفي انتظار الانتخابات في تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل، يلاحظ المراقبون اختلافها عن الانتخابات الرئاسية السابقة، فاختيار الديموقراطيين هيلاري كلينتون مرشحة ترافَقَ مع شكوك بتدخُّل قيادات في الحزب لإزاحة المرشح المنافس بيرني ساندرز، لكونه خارج الطبقة الحاكمة ومعارضاً لمصالحها العليا، في توجهاته اليسارية ومناهضته قوى المال المتحكّمة. لذلك تبدو هيلاري محكومة، في حال فوزها، بالوفاء ببعض الوعود التي أطلقها ساندرز، وهي تعلن ذلك، وإن بطريقة غير مباشرة، للمحافظة على احتشاد الديموقراطيين جميعاً خلفها. أما دونالد ترامب الذي خاض بنجاح معركة الحصول على ترشيحه باسم الحزب الجمهوري، على رغم كونه آتياً من خارج «المؤسسة»، فإن فوزه لن يكون باسم الجمهوريين وحدهم بل تخالطه مصالح جماعات يمينية وأمزجة سياسية غامضة ترفض أساليب المؤسسة الحاكمة من دون أن تكون قادرة على طرح البديل.
نحن أمام مرشحَيْن مشوبَيْن باختلاط يساري (كلينتون) وبمزاج معاد للنظام السياسي المعهود (دونالد ترامب). لذلك يتوقّع المراقبون لغة جديدة أو شبه جديدة من السيد (أو السيدة) المقبل (أو المقبلة) للبيت الأبيض، مع ما يكتنف هذه اللغة من تعقيدات في العلاقة بين واشنطن وحلفائها، وبالتالي مع خصومها التقليديين والجدد. من هنا يصدر الكلام الأوروبي المضاد، على لسان فرنسوا هولاند، وحالات الترقُّب لدى القوى الكبرى في العالم، وأعدّت دول مؤثرة في العالم منذ الآن نوعين من فرق العمل لمخاطبة العهد الأميركي الجديد، الأول يتهيأ لمخاطبة كلينتون والثاني لمخاطبة ترامب. فليس أمام هذه الدول سوى الترقُّب وعدم تصديق الموجة الإعلامية التي لا تتوقع فقط سقوط ترامب بل فشله في معركة الرئاسة فشلاً مهيناً لشخصه وللحزب الجمهوري.
نقول إن كلينتون ستنجح، مقيَّدةً ببعض شعارات ساندرز، مع عدم استبعادنا المفاجأة: دونالد ترامب رئيساً لأميركا وللعالم، لأن فوزه في معركة البيت الأبيض أسهل من الفوز الذي حققه بالحصول على ترشيحه من الحزب الجمهوري.
ولن نتخيل منذ الآن كابوس ترامب، خصوصاً في عالمنا العربي.