سيشكل فوز المرشح الجمهوري دونالد ترامب تغييرا كبيرا في السياسة الخارجية الأميركية تؤثر على اللاعبين كافة، حلفاء كانوا أم أصدقاء. والأهم من ذلك فوز الحزب الجمهوري في الأكثرية في مجلسي الشيوخ والكونغرس مما سيضغط على سياسات الادارة الأميركية الجديدة لتكون أكثر تحفظا وتشددا مع الانفلاش الروسي-الايراني في الشرق الأوسط، انما ليس بالضرورة بشكل يخدم مصالح الدول الحليفة لأميركا وتحديدا في الخليج العربي. لقد فاز ترامب نتيجة أجندة داخلية لا دور أساسي فيها للشؤون الدولية. وهو ينظر للعالم نظرة رجل الأعمال، أي سيتدخل حيث المصلحة والافادة المباشرة دون أي تأثيرات ايديولوجية، وسيدعم اللاعب القوي الذي يستطيع حماية مصالح أميركا وخدمتها بغض النظر عن مواقف هذه الجهة وعلاقاتها التاريخية مع أميركا. باختصار، لا مكان للضعيف في عالم الرئيس ترامب.
هزيمة كلينتون تعني الى حد بعيد نهاية سياسة الرئيس باراك أوباما الكارثية في الشرق الأوسط. فلقد كان متوقعا أن تستمر كلينتون بشكل كبير في سياسة أوباما مع بعض التعديلات فيما يخص حجم التدخل وطبيعته. أي أن استراتيجية أوباما في المنطقة كانت لتستمر تحت كلينتون انما التغيير كان سيكون تكتيكيا فقط. فهي كانت وزيرة الخارجية في ادارة أوباما عندما انطلقت المحادثات السرية مع ايران والتي افضت الى الاتفاق النووي والانفتاح الأميركي نحو طهران والذي ساعدها على توسيع دائرة نفوذها في المنطقة. كما أن كلينتون كانت في ادارة أوباما عندما انقلبت واشنطن ضد الرئيس المصري السابق حسني مبارك وساهمت في وصول الاخوان المسلمين الى الرئاسة في مصر. وعليه، فان فوزها في الانتخابات ما كان سيؤدي للتغير الذي يطمح له العديد من القادة العرب اليوم.
وحسب مسؤول بالحزب الجمهوري قريب من مركز صنع القرار الأميركي، فان فوز ترامب واكتساح الجمهوريين للكونغرس سيؤدي حتما الى تصعيد الوضع ميدانيا مع روسيا بغض النظر عن كلمات الاعجاب التي كان أطلقها ترامب نحو الرئيس فلاديمير بوتين خلال إحدى خطبه الانتخابية. فالحزب الجمهوري المحافظ يؤيد وجود قوات مسلحة أميركية قوية بميزانية دفاعية كبيرة ولن يقبل بوجود روسي على الحدود الجنوبية-الشرقية لحلف الناتو ولا بتمدد روسيا في أوروبا والهيمنة على أسواق النفط والغاز. فهذا يهدد مصالح أميركا الاقتصادية والاستراتيجية. ترامب، كرجل أعمال، سيحبذ صفقة سياسية مع روسيا تؤمن مصالح أميركا بشكل كبير وجلي ولكنه لن يساعد حتماً على جعل روسيا دولة عظمى. ومن هنا يتوقع المسؤول الجمهوري أن تدعم ادارة ترامب حرب استنزاف ضد روسيا في سوريا، مما يعني أن الحرب في الساحة السورية ستأخذ بعدا جديدا ليس بالضرورة للوصول الى حل يرضي طموحات الشعب السوري والدول العربية، انما لمنع روسيا من تحقيق مآربها ولخدمة المصالح الأميركية.
أما فيما يخص الشرق الأوسط فان ادارة ترامب سترث منطقة متوترة جدا يعاني فيها حلفاء أميركا التقليديين حالة من التشتت والتصدع الكبيرين. فلقد نجحت طهران في استغلال سياسة أوباما الليبرالية الساعية الى تغيير ايديولوجي في السياسات الخارجية السابقة للمحافظين، وتمكنت من ملء الفراغ الذي أحدثه الانسحاب الأميركي من العراق. كما استفادت ايران من رفع العقوبات الأميركية لإنعاش اقتصادها ولتمويل حملاتها العسكرية بالوكالة في كل من العراق واليمن وسوريا. كما استغل الروس سذاجة سياسة أوباما القائمة على ما تسميه القوة الناعمة في الاتكال على الدبلوماسية الأميركية والعقوبات وتمكنت موسكو من توسيع نفوذها في أوروبا والشرق الأوسط. هذا الفشل الأميركي أحدث اضطرابا كبيرا في صفوف حلفائها الذين يواجهون في الوقت ذاته أزمة مالية غير مسبوقة نتيجة انهيار أسعار النفط وارتفاع الانفاق العسكري لمواجهة التمدد الايراني وخطر الارهاب.
وسيجد ترامب نفسه في المراحل الأولى من ادارته مضطرا للتعامل مع واقع أوجدته ادارة أوباما في العراق حيث تقود ايران عبر ميليشيات الحشد الشعبي وتساندها الطائرات الأميركية الحملة ضد داعش لتتمكن من فتح ممر بري لها عبر محافظة نينوى يربطها بمحافظة دير الزور السورية. كما تحاول ادارة أوباما استغلال دعمها للأكراد في الحرب ضد داعش لتعزيز قدرات لاعب جديد غير عربي يخدم مصالحها في المنطقة. كما أن هذه الادارة تستخدم الأكراد في سوريا أيضا للهدف ذاته، مما يقلق الأتراك كما الايرانيين، ويدفع بأنقرة، حليفة واشنطن الاستراتيجية للتقرب من خصميها التقليديين – طهران وموسكو – لمنع نشوء كيان كردي مستقل.
كما أن سياسة واشنطن الغامضة نحو التوسع الايراني في اليمن حيث لم تقدم على أي عمل جاد لايقاف تدفق السلاح للحوثيين أحدث تبلبلا في صفوف التحالف العربي مما أثر على زخم الحملة العسكرية وفعالية الجهود الدبلوماسية لايجاد حل عادل وشامل للأزمة اليمنية. ولقد أدى التردد الأميركي في دعم حكومة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي التي تعاني من أزمة اقتصادية خانقة وفشل واشنطن في معالجة الأزمات في المنطقة لاثارة مخاوف السلطات المصرية ودفع بالقاهرة للتقرب مجددا من روسيا ومغازلة المحور الايراني بالرغم من الدعم المالي الكبير من دول الخليج العربي.
الرئيس ترامب سينظر كرجل أعمال الى مشاكل الشرق الأوسط الكبيرة. فهو سيبحث عن اللاعبين والحلفاء الأقوياء الذين يستطيع الاتكال عليهم لتحقيق مصالح أميركا. فلن يكون هناك مكان للمجاملات ولا للايديولوجيا ولا للعلاقات التاريخية وحماية الحرية وغيرها من الأمور التقليدية. فاذا ما أثبتت ايران بأنها تستطيع حماية مصالح أميركا وخدمتها فهو لن يتوانى للحظة من تثبيت تحالف واشنطن معها بغض النظر عما اذا كانت الحكومة الاسلامية ستبقى أم تزول أو ستسيطر على كافة الدول العربية.
ان عهد ترامب سيكون عهد الواقعية السياسية المطلقة وعنوانها العريض خدمة مصالح وأهداف أميركا أولا وآخرا. فهو سيحاول التناغم بشكل كبير مع سياسات ومصالح اسرائيل حيث من المتوقع أن يكون الرئيس الأميركي الذي سيعترف بالقدس كعاصمة للدولة العبرية. وسيجاري اسرائيل بمسعاها لجعل ايران والجماعات الاسلامية التكفيرية مصدر التهديد الأساسي للسلم العالمي – ما لم تقدم طهران على تنازلات سياسية وايديولوجية كبيرة. والدول التي ستتماشى مع هذه السياسة في الشرق الأوسط ستتفق جيدا مع ادارة ترامب. وهو كان أعلن أكثر من مرة عن عزمه على تمزيق الاتفاقية النووية مع طهران – فهل سيقدم على هذه الخطوة بسرعة أم لاحقا أو يعدل عنها، هو أمر متروك لرد فعل طهران خلال المرحلة المقبلة.
وستشهد علاقات ادارة ترامب مع دول الخليج تحدياً آخر متمثل بخطر الحركات الاسلامية المتطرفة وربط مجموعة كبيرة من السياسيين في واشنطن ما بين الفكر التكفيري والمذهب الوهابي، الأمر الذي أدى الى تمرير قانون العدالة ضد الارهاب والذي يسمح لعائلات ضحايا هجمات 11 أيلول 2001 على نيويورك وواشنطن بمقاضاة الدول التي انطلق الارهابيون منها، وتحديدا المملكة العربية السعودية.
الدول العربية التي ستظهر تماسكا داخليا قويا وقدرة على تطوير صناعاتها المحلية واستقطاب الشركات الدولية للاستثمار فيها والتعاون معها ستحظى باهتمام ادارة ترامب اذ انها ستعكس مدى قوتها واتكالها على نفسها وستكون قادرة على بناء علاقات اقليمية-دولية قوية تخدم مصالح أميركا الاقتصادية وتساهم في الاستثمار داخل الولايات المتحدة. فإدارة ترامب لن تكترث جدياً لأي دولة لا تقدم شيئا لأميركا وستشكل عبئاً عليها. لن يكون صعبا ادراك اهتمامات وأولويات ادارة ترامب متى استلمت الحكم، انما التحدي الآن أمام الدول العربية هو الحد من أضرار ادارة أوباما الراحلة ولجم محاولات المحور الروسي-الايراني لفرض أمر واقع قبل التغيير في البيت الأبيض والذي سيستغرق ما لا يقل عن شهرين.
* باحث في الشؤون الاستراتيجية