يقول أستاذ العلوم السياسية في جامعة هارفرد الدكتور جوزف ناي في كتاب له عنوانه: «هل انتهى العصر الأميركي»، ان الولايات المتحدة لم تعرف في تاريخها رئيساً مثل الرئيس دونالد ترامب. فمنذ أن تبوّأ السلطة، بدأ زعماء وقادة العالم يعيدون النظر في علاقات دولهم وتحالفاتها على أساس ان الرئيس ترامب وضع الولايات المتحدة في كفة، والمجتمع الدولي كله في كفة ثانية. فعلى قاعدة «أميركا أولاً» تأسست مواقفه السلبية من العديد من المواثيق والمعاهدات الدولية، ومنها:
– حلف شمال الأطلسي
– الاتحاد الأوروبي
– معاهدة باريس حول البيئة
– معاهدة التجارة العالمية
– نافتا (العلاقات التجارية مع المكسيك وكندا)
– القضية الفلسطينية والقرارات الدولية التي تتعلق بها، وسواها.
لقد أدرك العالم ان «الترامبية» ليست مجرد توجّه سياسي. انها ستراتيجية حتى اشعار آخر. وقد أوصلت الانتخابات الرئاسية الأميركية الولايات المتحدة والعالم كله الى هذا الإشعار الآخر بوصول جو بايدن الى البيت الأبيض. صحيح انه كانت هناك معارضة لترامب في الداخل، ولكنه لم يكن يأبه لها. ولم يعرْها أدنى اهتمام.
من هنا بادرت الدول الكبرى الى إعادة النظر في علاقاتها مع واشنطن على أساس هذا الواقع الجديد. وهي مضطرة الآن الى إعادة النظر مرة ثانية في ضوء المبادرات الإنقلابية التي قام بها الرئيس الجديد في اليوم الأول لدخوله البيت الأبيض.
انطلقت إعادة النظر في المرّتين الأولى والثانية من إدراك الحقيقة الهامة التالية ؛ وهي ان للولايات المتحدة من القوة الذاتية ومن النفوذ الدولي ما يجعلها حجر الزاوية في كل نظام عالمي. فهي مثلاً تنفق على التسلح أكثر مما تنفقه أكبر سبع دول تليها مباشرة بما فيها روسيا والصين وفرنسا وبريطانيا، وهي تنتج وحدها ما نسبته 23 بالمائة من الدخل العالمي. ثم ان عملتها (الدولار) هي العملة الأقوى المعتمدة دولياً.
حاول الرئيس ترامب تحويل شعار «أميركا أولاً» من شعار انتخابي ترويجي، الى مبدأ سياسي تقوم عليه السياسة الأميركية في علاقاتها مع العالم. من أجل ذلك قامت عشر حركات سياسية – اقتصادية دولية لمواجهته دفاعاً عن الذات. وتقف هذه الحركات اليوم بانتظار مبادرات تغييرية جديدة للرئيس الجديد جو بايدن.
أما هذه الحركات أو المنظمات فهي التالية:
1-منظمة «الديموقراطيون العشرة»، ويُرمز اليها بـ D10. وتضم مفكرين سياسيين وستراتيجيين من بريطانيا وفرنسا والمانيا وإيطاليا وكندا واليابان واستراليا وكوريا الجنوبية، وكذلك الولايات المتحدة ذاتها. وقد نجحت في الدور العالمي للولايات المتحدة، وخطره على النظام العالمي، والذي استقر العالم عليه منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية.
فقد سبق للرئيس ترامب أن وصف أوروبة بـ«العدو». وردّ عليه يومها رئيس الاتحاد الأوروبي بالقول: «مع صديق من هذا النوع.. لا نحتاج الى أعداء «.
2-منظمة مبادرة النظام الديموقراطي: انطلقت هذه المنظمة من برلين في شهر يونيو – حزيران من العام (2018)، وضمّت شخصيات مثل مادلين أولبرايت وزيرة الخارجية الأميركية السابقة وستيفن هادلي المستشار الأمني للرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، وكارل بيلد رئيس حكومة السويد السابق ويوريكو كاواغوشي وزير خارجية اليابان السابق.
وأعلنت ان مهمتها هي العمل على نطاق دولي مع الحكومات والبرلمانات ومنظمات المجتمع المدني من أجل توعية الرأي العام الى المخاطر التي تمثلها المتغيرات اللاديموقراطية التي تنسف قواعد النظام العالمي الراهن.
3-منظمة التحالف الديموقراطي، وهدفها تعزيز قواعد الديموقراطية في العالم. ويقودها الأمين العام السابق لمنظمة حلف شمال الأطلسي أندرس راسموسن والذي شغل منصب رئيس حكومة الدانمرك قبل ذلك. وقد أعلن: «ان مستقبل الانسانية متوقف على القدرة على مقاومة الانحرافات عن مبادئ الديموقراطية».
4-«منتدى باريس للسلام»، الذي أطلقه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. وضمّ ممثلين عن الحكومات ومنظمات المجتمع المدني لبحث القضايا العالمية في ضوء المتغيرات الترامبية الجديدة. وكانت مبادرة ضد الشعبوية الأميركية والأوروبية معاً، وتسعى الى الإبقاء على التفاهمات الدولية بمعزل عن الانكفاء الأميركي. ومما يشجع الرئيس الفرنسي على ذلك، انه من بين الدول التي وقّعت على اتفاقية باريس حول المناخ والبيئة، والتي يبلغ عددها 194 دولة، فان الولايات المتحدة وحدها تمرّدت عليها وانسحبت منها.. إلا ان الرئيس بايدن تعمّد في اليوم الأول لتسلّمه السلطة، أن يوقّع على قرار رئاسي بالعودة الى الإتفاقية من جديد.
5-عملية إعادة إحياء معاهدة التعاون عبر الباسيفيكي التي أسقطها الرئيس ترامب بانسحابه منها والتي كانت تضم 12 دولة بما فيها الولايات المتحدة. وتمت عملية إعادة الإحياء في مؤتمر عقد في تشيلي.
6-التفاهم الاسترالي – الياباني الجديد الذي تراوح بين العمل العسكري الدفاعي والتبادل التجاري، بمعزل عن الولايات المتحدة. وهو اول عمل في هذا المستوى تقوم به حليفتا الولايات المتحدة في شرق آسيا، من وراء ظهرها، أو على الأقل من دون مشاركتها.
وكانت اليابان قد وقّعت مع الاتحاد الأوروبي على اتفاقية تقضي بإلغاء معظم الرسوم الجمركية على البضائع المتبادلة، مما يعني قيام أكبر منطقة من الاقتصاد الحر في العالم تضم 600 مليون انسان وتشكل اقتصادياً ثلث الدخل العالمي.
7-إقامة نظام من التفاهم والتعاون بين الهند واستراليا وفرنسا، وهو تعاون وصفه الرئيس ماكرون نفسه بـ «المحور الثلاثي». ومهمة هذا المحور التعامل المنسق في اطار ستراتيجية الأمن في المحيطين الباسيفيكي والهندي. وقد أعلن الرئيس الفرنسي اثناء التوقيع على هذا «التحالف» الذي يملأ فراغ الانسحاب أو التراجع الأميركي بأن «علينا حتى نثبت حضورنا في وجه التضخم الصيني، أن نحقق أكبر قدر من التعاون». وهو التعاون الذي غابت عنه الولايات المتحدة بحكم سياسة الرئيس ترامب.
8-مبادرة التدخل الأوروبي التي وقّعت عليها تسع دول، بما فيها بريطانيا وألمانيا. وبموجب ذلك تعهدت الدول الموقعة على المبادرة التدخل العسكري المشترك والمنسق لمواجهة الأزمات الخارجية.. وحتى من دون المشاركة الأميركية.
9-إنشاء «مجموعة ليما» بين كندا و16 دولة من دول أميركا الجنوبية، في ردّ مباشر على الغاء الرئيس ترامب معاهدة النافتا من جهة، وموقفه التشهيري من دول أميركا اللاتينية باعتبارها مصدراً للمهاجرين.. وتالياً مصدراً للمتاعب في الداخل الأميركي.
10-المبادرة الصينية بإعادة إحياء ستراتيجية طريق الحرير التي أطلقها الرئيس الصيني تشي. ففي القمة الصينية – الأوروبية الأخيرة التي عُقدت في بكين، دعا الرئيس تشي الى تشابك الأيدي بين الصين والدول الأوروبية للمحافظة على التعدد وعلى حرية التجارة العالمية.
ولقد أنشأت الصين البنك الآسيوي للتنمية، كما أنشأت مجموعة 16+1 وهي أكبر مجموعة من حيث عدد السكان في العالم، ومنظمة شنغهاي للتعاون التي تضم الى جانب الصين، كلاً من الهند وكازاخستان وغيرغيستان وباكستان وطاجكستان وروسيا واوزباكستان.
وصل التراجع الأميركي في سنوات ترامب الأربع الى حد الإنكفاء عن العالم والتقوقع على الذات، الأمر الذي أعطى مجموعة «البركسيت» المؤلفة من روسيا والصين والهند والبرازيل والصين وجنوب افريقيا دوراً أساسياً في بلورة النظام العالمي الجديد بمعزل عن الولايات المتحدة. إلا ان كل هذه المبادرات تجمّدت الآن بانتظار الإجراءات الإنقلابية التي يقوم بها الرئيس جو بايدن.. بما في ذلك صفقة القرن في الشرق الأوسط.