تطوُّران بارزان حدثا خلال الساعات الماضية على مستوى اتضاح آليات إنشاء منطقة خفض التوتر في جنوب غرب سوريا التي تفاهم عليها كل من الرئيس الأميركي والروسي في ألمانيا على هامش قمة العشرين.
التطور الأول تمثَّل بإرسال موسكو 400 عسكري روسي الى منطقة درعا، والثاني تمثل بتسريب خبر، له نسبة عالية من المصداقية، يفيد بأن الرئيس الاميركي دونالد ترامب أمَر «السي آي إي» بوقف برنامج المساعدات العسكرية لفصائل الجيش الحر والمعارضة السورية.
مصدر مطلع كشف لـ «الجمهورية» عن أسرار وقائع العلاقات الخفية التي سادت أخيراً بين إدارة ترامب وفصائل المعارضة المنضوية داخل إطار الجبهة الجنوبية، والتي هي من مسؤولية السي آي اي، وذلك منذ وصوله الى البيت الأبيض حتى هذه اللحظة.
يكشف سياق هذه المعلومات أنه بعد أسابيع قليلة من وصول ترامب الى البيت الأبيض، أمَر ترامب بإعادة دفع حصة الولايات المتحدة الأميركية من مجمل عملية تمويل غرفة عملية الموك في الأردن، والتي تشارك فيها دول عدة.
ونظرت فصائل الجبهة الجنوبية الى هذا القرار على أنه يُبشِّر بتغيير أميركي إيجابي لصالحها، خصوصاً وإن الرئيس أوباما كان أمَر بوقف دفع حصة أميركا في تمويل الموك. وما زاد من منسوب تفاؤل المعارضة السورية هو أن ترامب أمَر بتسديدها سلفاً عن عام 2017.
وإثر هذا القرار، وصلت الى كل من تركيا والأردن لجنة من أربعة ضباط من مكتب ترامب مباشرة، اثنان منهم توجّها إلى تركيا وآخران إلى الأردن.
واتصل هؤلاء الضباط بقيادات فصائل الجبهة الجنوبية في البلدين ووجهوا اليهم أسئلة تتعلق في كيفية إنشاء قوة سورية معارضة ومعتدلة، تسمح بإعادة الهيكلة العسكرية للجبهة الجنوبية، بحيث يمكن الركون اليها بأنها لن تخترق من التنظميات الإسلامية المتطرفة كما حصل في المرات السابقة مع المجموعات العسكرية السورية المختلفة، التي أنشأتها السي آي اي.
وانتهت جولة الضباط الأربعة بإعداد تقرير مفصَّل عن مدى الفرص والمحاذير الآمنة في تنفيذ فكرة إنشاء جسم عسكري جديد لفصائل الجبهة الجنوبية، يكون محصَّناً من إمكانية إختراقه من الإسلاميين المتشدِّدين.
وتلا هذه الخطوة، قرار آخر من ترامب، نفّذه بعد مرور أقل من ثلاثة أشهر على وصوله إلى البيت الأبيض، وهو بدوره أوحى أيضاً للمعارضة السورية، بأن ترامب – على عكس ما هو مُعلن بأنه مُتّجه لمقايضة بقاء الأسد بتفاهُم روسي – أميركي في سوريا – يسعى لتحصين المعارضة المعتدلة في سوريا وتقويتها، وبخاصة « جماعة قسد الكردية العربية» في منطقة الحسكة وريفها، و» فصائل الجيش الحر» في جنوب غرب سوريا، الذين يشكلون الجبهة الجنوبية التابعة لـ «موك».
أما قرار ترامب المقصود، فتمثل بالسماح لـ «سي آي اي» بايصال عدد محدود من صورايخ التاو المضادة للدروع الى فصائل معيّنة في الجبهة الجنوبية، ولكن هذه الصواريخ لم تُسلِّمها وكالة الإستخبارات الأميركية بشكل مباشر لفصائل المعارضة، بل عبر غرفة عمليات الـ«موك».
آنذاك، إعتبرت موسكو أن إجراء ترامب الذي ظل في إطار السرية، لا يُشكل إزعاجاً كبيراً لها، والسبب في ذلك هو أن إشارة إعطاء دور لـ«الموك» في عملية تسليم الصواريخ وتوزيعها، يوضح أنه ليس إجراءً أميركياً مفتوحاً، أو قراراً استراتيجياً، بقدر ما هو قرار موضعي أملته رغبة «الموك» بالدفاع عن مواقع محددة للمعارضة في إطار إبقاء توازنات الميدان السوري قابلة لبناء تسوية فوقه.
وخلال فترة ما قبل توجّه فصائل المعارضة السورية إلى اجتماع جنيف 7 الأخير، تمّ إعلام فصائل الجبهة الجنوبية من المنسق الأميركي معها، بأن عليها أن تكون جاهزة بعد جولة جنيف 7، أو بعد فترة وجيزة من إنقضائها، لتشكيل هيئة سياسية ومؤسسات سياسية أخرى تنبثق عنها.
وكانت هذه إشارة أميركية للجبهة بأن عليها في الفترة القريبة المقبلة، الإنتقال من كونها حالة عسكرية خالصة الى ماهية جديدة تؤهلها للعمل السياسي أيضاً، والتكيُّف مع مسار تسوية قد يبرز قريباً في سوريا.
من المعلوم أن الجبهة الجنوبية هي حتى الآن عبارة عن إطار عسكري إئتلافي يضم نحو 60 مجموعة أو» لواء» (بمعنى وحدة) معظمها من تفرّعات الجيش السوري الحر، ولدى الجبهة « قيادة عسكرية» أو بتعبيرأدق، غرفة عمليات عسكرية تابعة للموك ومنقادة بشكل مباشر من السي آي اي. وعديد فصائل الجبهة الجنوبية يصل الى 40 ألف مقاتل، نصفهم تمّ تدريبهم على أيدي «السي آي اي» في قواعد عسكرية جوية أردنية، ويرتبطون بها بعلاقات الأمرة إلى حدٍ بعيد.
وفي حين إن البنتاغون هو المشرف على فصائل معارِضة سورية شمال سوريا تدريباً وتسليحاً، فإن وكالة الإستخبارات الأميركية هي المسؤولة عن ملف فصائل الجبهة الجنوبية في جنوب سوريا، تسليحاً وتدريباً.
وبحسب سياق المعلومات نفسه، فإن نبأ وقف ترامب لبرنامج مساعدات «السي آي اي» للمعارضة السورية، يعني عملياً أنه أمَر بوقف تسليح الجبهة الجنوبية التي هي من مسؤولية «السي آي اي»، وإليها أيضاً منطقة الغوطا الشرقية، التي توجد فيها فصائل وازنة لمعارضات الجبهة الجنوبية ( الموك). ولعل هذا ما يُفسِّر بدء الكلام عن توجُّه روسي وأميركي لتعميم منطقة خفض التوتر على حلب والغوطا قريباً.
أما نشاط البنتاغون شمال سوريا وبخاصة مع « قسد» (التجمع ذو الغالبية الكردية) فهو مستمر، ولا يشمله قرار ترامب. والمعنى الثاني لهذا القرار هو تحويل ميدان جنوب غرب سوريا ضمن إطار جعله منطقة منخفضة التوتر، الى ميدان سياسي أكثر منه ميدان عسكري، وذلك كمقدمة لتأهيل المعارضة فيه للعب دور سياسي، وليس فقط عسكرياً، وأيضاً كمقدمة لأن تمارس موسكو دور ضامنٍ للثقة للمعارضة، بأن مواقعها خلال الهدنة لن يتم اجتياحها من قبل الجيش السوري.
وإرسال موسكو الشرطة العسكرية الى منطقة درعا لتقوم بالفصل هناك بين قوات المعارضة والنظام، يتضمن رسالة تطمين للمعارضة «الأميركية» التي اختبرت أن الشرطة العسكرية المشكلة بغالبيتها من روس شيشان مسلمين سنّة، يمكن لها، كما فعلت في حلب، أن تلعب دوراً حيادياً مطمئناً لهواجس المعارضة المذهبية.