عاصفة ترامب تتراجع لبنانياً واقليمياً ودولياً
لبنان يطرح مفاهيم جديدة للإصلاحات
وباريس – ٤ متوقعة خلال ٣ أشهر
كل شيء كان هادئاً، وفجأة هبّتْ عاصفة ضربت البلاد من أدناها الى أقصاها.
لا أحد إلا وكان ينتظرها، لان الرئيس دونالد ترامب، لا يستبعد عنه أي إحتمال الا الشيء الذي استغربه العالم يوم الأحد ما قبل الماضي، الا وهو عودة الجنون الى المنتفضين على قرار ترامب بنقل الإدارة الأميركية من تل أبيب الى القدس.
لم يصدق الكثيرون ما شاهدوه على شاشات التلفزيون، عندما تحوّل الإعتراض الى جريمة، لا بحق ترامب، بل بحق المواطنين، والمفاجأة أضحت ممانعة مشوبة بغضب الإنفعال، ورشق قوى الأمن اللبنانية بالحجارة، واحراق المخازن والمتاجر المكتوبة باللغات الفرنسية والإنكليزية والإيطالية.
اعتقد اللبنانيون ان الشعوب التي هدرت في الشوارع قبل أربعين عاماً على الأقل لن تعود ثانية، لان المواطنين تعلموا… ولن يقترفوا ثانية الحق نفسه مجدداً، وفي مناسبة مشابهة.
لكن رئيس الجمهورية استوعب بسرعة الخطأ الفادح، عندما بادر الى التنديد بما فعله غلمان التظاهرات من مساوئ بحق القرار الأميركي، ثم توجه في منتصف الأسبوع الى اسطنبول، مُلبياً دعوة الرئيس التركي أردوغان الى قمة تضم رؤساء الدول الإسلامية وقادتها الذين هالهم ما فعله ترامب ضد الإنسانية جمعاء، لا ضد الشعب العربي وحده.
ورئيس الجمهورية اللبنانية رفع صوت الشعب اللبناني ضد العاصفة الأميركية، ودعا الى وقفة عز في مواجهة قرار ترامب، لان الشعب العنيد لا يُضعف له صوت أو قرار، أو يضعف أمام نزوة ترامب الأميركية لنقل سفارة بلاده، من تل أبيب الى القدس.
وأكد الرئيس اللبناني ان شعبه المشهود له في التنوع السياسي يعرف كيف يترجم أفكاره الى أفعال، وكيف يدحض الخطأ التاريخي، وكيف يمارسه الآن، لان المتظاهرين الجدد، ليسوا أحزاباً بل هم الرافضون لآراء ترامب، القادمون من مختلف المخيمات الفلسطينية والمناطق اللبنانية ويترجمون عواطفهم، برشق قوى الأمن الداخلي بالحجارة، أو يطالبون باقفال السفارة الأميركية في عوكر الواقعة في ضاحية انطلياس.
قبل أكثر من نصف قرن تقريباً، قال صلاح خلف، ابو اياد الرجل الثاني في حركة فتح الفلسطينية، ان الطريق الى فلسطين تمر في جونيه، وان تحرير القدس يبدأ من كسروان لا من فتح لاند وهي اصلاً حُرّة، وسيدة نفسها، وذهب كلام القائد الفلسطيني الى مثل غريب تلجأ اليه الشعوب، عندما كانت تريد التهكم على الشعب الفلسطيني.
لكن، بعد الخطاب التاريخي للرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، في دورة فلسطين في الجمعية العامة للأمم المتحدة، الذي دعا فيه العالم الى الاختيار بين غصّن الزيتون والبندقية الفلسطينية، التقى الوفد الفلسطيني شفيق الحوت في مطعم الأمم المتحدة، وسألهم مندوب منظمة التحرير في بيروت: من سيُصدقون قول الرئيس عرفات أم شعار أبواياد، فرد عليه أبو جهاد: أنا خليل الوزير أقول أمامكم بكل حرية ان ما فعله أبو اياد خطأ كبير لا يُغتفر.
وفي العام ١٩٧٤، لبّى رئيس الجمهورية اللبنانية سليمان فرنجيه دعوة الملوك والرؤساء والاحرار العرب، الى ان يتوجه الى نيويورك، ويلقي باسمهم كلمة العرب في دورة فلسطين لأن العالم ينبغي له، ان يعرف ان رئيس دولة لبنان المسيحي هو من يتكلم نيابة عنهم للمطالبة بفلسطين عربية وعاصمتها الأبدية مدينة القدس.
وقال يومئذ الأديب ادوار حنين ان المسيحي هو المؤهل، قبل سواه بالذود عن الحق العربي الضائع.
كان الرئيس سليمان فرنجيه يقيم في السفارة اللبنانية في نيويورك، وسأل عن الرجل الذي أوعز الى السلطة الأميركية. بتفتيش حقائب الوفد اللبناني، وأبلغه بعد ذلك السفير سهيل شماس والمدير العام للأمن العام انطوان دحداح، بان المعلومات التي حصلا عليها تشير الى ان السفير الأميركي في بيروت السيد غودلي، هو من دسَّ معلومات الى الإدارة الأميركية بان عضو الوفد الرئيس المرافق للرئيس فرنجيه الى نيويورك صبري حماده يحمل في حقائبه كميات من حشيشة الكيف.
وعندما اتصل الرئيس الأميركي جيرالد فورد بالرئيس فرنجيه للإعتذار منه، ودعوته الى البيت الأبيض لتكريمه، رد عليه بانه يرفض تكريمه من الأميركان، كما يرفض العمل العدائي لوزير خارجيته هنري كيسنجر.
هل كان الرئيس الأميركي الجديد ترامب يكرر ما فعله هنري كيسنجر في العام ١٩٧٤، عندما طلب من ادارته نقل السفارة الأميركية من تل أبيب الى القدس!
كان الوفد الرئاسي اللبناني مجتمعاً في جناح الرئيس شارل حلو في الطبقة ٣٥ من فندق والدورف استوريا عندما دخل عليهم الرئيس الشهيد رشيد كرامي وأبلغ الرؤساء عبدالله اليافي وصائب سلام، وشفيق الوزان ان السفير الأميركي في بيروت السيد غودلي هو من أبلغ الإدارة الأميركية بان الرئيس صبري حماده، ينقل حشيشة الكيف من بيروت الى أميركا، وانه تبلغ المعلومات من الأمين العام لوزارة الخارجية في العاصمة اللبنانية، الا ان معظم الحاضرين شكروا رشيد كرامي على معلوماته.
وعندما عاد الرئيس فرنجيه الى بيروت، استدعى السفير الأميركي في بيروت واعطاه اجازة قسرية خارج لبنان، لان فعلته الشنيعة لا يمكن ان تمر بسهولة.
وساعة وقف الرئيس اللبناني ميشال عون في قمة اسطنبول، ودعا الى مقاربة واضحة للحل، تقوم على التقدم بشكوى عاجلة الى مجلس الأمن الدولي والأمم المتحدة، باسم مجموعة الدول الإسلامية، لتعطيل القرار الأميركي، والزام الولايات المتحدة بالغائه، والقيام بحملة دبلوماسية لزيادة عدد الدول التي تعترف بدولة فلسطين، والإنتقال الى اعتبارها دولة كاملة العضوية في الأمم المتحدة.. ادرك الجميع ان الرئيس عون لا يهادن أحداً.
والرئيس العماد عون خطف الأضواء في اسطنبول، والقى مسؤولية مناكفات الرئيس الأميركي ترامب على كواهله وطاقمه السياسي، إلا ان انعقاد قمة مسيحية – إسلامية في بكركي بحضور البطاركة المسيحيين والائمة الاسلاميين، جعل ترامب يَنْدم على ما فعله قبل أسبوع، لأنه لم يكن يتوقع أن يقابل اقتراحه بما تفجر ضده وضد بلاده، لانه حتى رؤساء الدول الأوروبية وفي مقدمتهم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أحجموا عن مجاراته في خطأ العصر الحديث.
وأبدى البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي، تفاؤله بتحسن الاحوال ورأى في اعتماد الحكومة النأي بالنفس خطوة كبيرة جداً الى الأمام، رغبة منه في استكمال الإستراتيجية الدفاعية.
ويشدّد البطريرك الراعي على أنّ لبنان يجب أن يكون بلداً حيادياً حتى يخدم الجميع، وان دوره في العالم العربي هو الدور الذي يخدم معظم البلدان العربية، أي السلام والعدالة.
وهنأ الكاردينال الراعي الرئيس سعد الحريري على عودته عن استقالته، وقال ان الإنطلاقة الجديدة واجتماع مجموعة الدعم في باريس، يبرز دوره المهم على رأس الحكومة لإعطاء اللبنانيين ثقة واسعة فيهم على مستوى العالم.
وهذا، في رأي الخبراء المحليين أيضاً، فرصة جديدة لبلورة مفاهيم عريقة في ما ينبغي فعله لصالح لبنان.
هل يمكن القول إن سياسة الحكومة في النأي بالنفس عن التطورات الدولية في هذه الحقبة الصعبة، هي الطريق إلى الحقيقة، المجردة من أي غاية؟
الرئيس الحريري يؤكد: أنا أتطلع إلى مصلحة لبنان، وأي فريق أو حزب سياسي يريد استقرار لبنان ومصالح البلد الاقتصادية مع دول الخليج والعالم، عليه أن يكون ملتزماً بتنفيذ سياسة النأي بالنفس واحترامها، لان في نهاية المطاف يجب الا يدفع الشعب اللبناني ثمن بعض المغامرات التي قد يقوم بها بعض الأحزاب من هذه الجهة أو تلك، وعلينا في تيار المستقبل أن نحترم سياسة النأي بالنفس، وقد قمنا بذلك، وهذا يعود إلى التهدئة السياسية المطلوبة من الجميع.
ويقول الوزير جبران باسيل ان تحالفاً غير رسمي، يقوم الآن، بقيادة الرئيس الحريري ويضم التيار الوطني الحر وحركة أمل والحزب الديمقراطي برئاسة وليد جنبلاط وان حزب الله ليس بعيداً عن مباركته، سيساهم في بلورة تفاهم عريض لصالح الحكم الذي يقوده بحكمة ودراية فخامة العماد الذي يحرص على جعل هذه القوى حزمة سياسية في مناصرة السلطة.
وفي رأي وزير الخارجية والمغتربين ان القوى القائمة على التنوع السياسي هي المؤهلة لممارسة تنوع سياسي عريض، وليس مجرد تجمع سياسي ضد تجمع سياسي آخر.
وفي رأي الوزير باسيل، ان إقرار مجلس الوزراء أخيراً، لبلوكات النفط، سيجعل من لبنان ملك النفط والغاز في وطن قائم على العدالة في معظم قواه الإجتماعية والإقتصادية.
ويقول مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ عبد اللطيف دريان انه يشارك الرئيس التركي بأن إسرائيل دولة احتلال، وهي أيضاً دولة ارهاب، مؤكداً ان القدس هي خط أحمر ممنوع المساس به.
هل تؤدي التوترات، بعد مواقف ترامب إلى حرب اقليمية؟
وفي حال وقعت الحرب، فكيف ستنعكس على لبنان؟
يرى الباحث في القضايا الإقليمية الدكتور طلال عتريسي ان الرهان الفعلي ليس على العرب، انما على محور المقاومة، معيداً الى الأذهان، ان حزب الله لم يطلب من العرب أن يكونوا ضد القوى المواجهة للعدوان لأنها ستصبح حرب خرائط علماً ان لبنان الرسمي كان دائماً جزءاً من الإستراتيجية العربية الموحدة. أما في حال وقعت الحرب، فإن أحداً لا يستطيع أن يقف في وجهها ولا سيما لأنها ستصبح حرب تغيير خرائط، وعندها لا قيمة للكلام على تجنبها.
من ناحية اخرى، ماذا يتوقع من باريس – ٤، في ضوء ما حصل في العاصمة الفرنسية تمهيداً لما هو منتظر في الاسابيع المقبلة.
العارفون يقولون او يتكهنون بأنه ينبغي تنفيذ من ملاحظات اصلاحية لاقرار تشريعات تمهد لباريس – ٤ لدعم لبنان. والرئيس سعد الحريري مصمم على تسريع الإصلاحات الحكومية.
لقد حمل اجتماع باريس – ٣ ضرورة إقتصادية نتيجة الازمات الناشئة في المنطقة. وما يحتاجه لبنان من باريس – ٤ هو تعهدات تقارب الخمسة عشر مليار دولار على شكل هبات لمساعدة لبنان على معالجة تدهور الأمور المالية العامة.
بيد ان خبراء في السياسة والإقتصاد يقولون ان السلطة رسمت حلاً للخلل لتنظيم العلاقات اللبنانية والعربية.
وهذه تسوية تتوجه إلى تنقية علاقات اللبنانيين وطوائفهم، وحتى موقع رئاسة الجمهورية تحديداً، وحماية مرجعيات الوفاق لبنانياً وعربياً، أي إتفاق الطائف وميثاق جامعة الدول العربية.
وهذا ما سيكون عليه نهج الرئيس الحريري بالتعاون مع رئيس الجمهورية، من دون نسيان الدور الرائد والمتعاون للرئيس نبيه بري.
وكانت القمة الإسلامية التي انعقدت في بكركي قد أكدت ان القدس التي تزخر بمواقع تاريخية مقدسة لدى الديانات التوحيدية مثل كنيسة القيامة والمسجد الأقصى، ليست مجرد مدينة عادية كغيرها من مدن العالم، وبالتالي فإن قرار الرئيس الاميركي المبني على حسابات سياسية خاصة، يُشكل تحدياً واستفزازاً لأكثر من ثلاثة مليارات من البشر، ويمس عمق إيمانهم.
وقد جاء في البيان الختامي ان أصحاب القداسة والغبطة والسماحة يرفضون قرار ترامب ويطالبون بالرجوع عنه، ويعتبرون، انه فضلاً عن مخالفته للقوانين والمواثيق الدولية، يسيء إلى ما ترمز اليه مدينة القدس كمدينة روحية جامعة، وان تغيير هذه الصورة النبيلة للقدس وتشويه رسالتها الروحية يسيء الى المؤمنين وحقوقهم ومشاعرهم.