IMLebanon

«ترامب ترجمة فجة للواقع»

عندما هدم جدار برلين عام 1989، وتفكك الاتحاد السوفياتي بعد سنتين، و «انتهى التاريخ» (فوكوياما)، انتشرت نظريات كثيرة عن تحول العالم إلى قرية صغيرة سكانها يتجهون، في سرعة، إلى العيش معاً في ظل نظام عالمي جديد، تسوده القوانين الإنسانية، بعدما هزمت الأيديولوجيا الشيوعية، والتحقت دول أوروبا الشرقية بغربها لتشكل كتلة بزعامة «الأخ الأكبر» الذي ينظم هذه القرية وينشر فيها قيم الديموقراطية والعدالة والمساواة، فضلاً عن ترويج «الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية»، بالمعنى المقلوب لنظرية ماكس فيبر الذي فسر التاريخ على أساس الدين، فألغى مروجو هذه النظرية الصراعات والتحولات الاجتماعية المستمرة (كانت مارغريت ثاتشر تقول: لا وجود لشيء اسمه مجتمع) ليقفوا عند مرحلة زمنية واحدة، مثلهم في ذلك مثل تنظيمي «داعش» والنصرة» اللذين جمدا التاريخ عند القرون الأولى للإسلام. وأصبحت انقسامات تلك القرون وحروبها ورؤاها أيديولوجيا ثابتة لديهما، من يخرج عنها كافر أو ملحد. هكذا فهمت أميركا المحافظين الجدد، وبريطانيا الشرق الأوسط. فتحالفتا مرة مع شيعة العراق، في عهد جورج بوش الابن، ومرة مع السنّة في عهد باراك أوباما. وأوكلت واشنطن أمر بلاد ما بين النهرين إلى مجرمي شركات أمنية خاصة أطلقت عليهم اسم «المتعاقدين» لإيهامنا بأنهم يسعون إلى إعمار ما خربته الحرب. وإلى جانب شركات الأمن الخاصة نشطت شركات النفط والسلاح العملاقة في القرية العالمية لتحصد ما زرعته الحروب. وعمّت عقلية الغيتو بين الطوائف فكان لا بد من بناء جدران لتفصل الطوائف والمذاهب بعضها عن بعض، وإذ بالعالمية أو الكونية تتحول إلى منعزلات في الدولة الواحدة، وعمّت الكراهية والأحقاد كل المجتمعات في الشرق الأوسط، لتنتقل من العراق إلى بلاد الشام وما بعدهما.

مع دونالد ترامب بدأ عصر جديد من الانعزالية واقتصاد السوق. الرجل القادم من عالم الأعمال بدأ عهده بشن حرب على كل ما له علاقة بإشراف الدولة على المؤسسات، فأصدر مرسوماً يلغي الضمان الصحي لملايين الأميركيين (أوباما كير)، وأغرق في «التنظير» لعودة أميركا إلى عظمتها، وتحدث عن العمال البيض، أي بدأ بناء جدار عنصري في مواجهة السود، وأخذ قرارات بمنع مواطني عدد من الدول الإسلامية من دخول الولايات المتحدة، وشجع بريطانيا على الخروج من الاتحاد الأوروبي. وقرر بناء جدار «عظيم» على الحدود مع المكسيك التي عليها دفع تكاليف بنائه. لكنه في الوقت ذاته يؤكد السعي إلى قيادة العالم. تماماً مثل رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي التي كانت أول رئيس دولة تلتقيه لتتحدث، وهي الساعية إلى الخروج من الاتحاد الأوروبي عن «بريطانيا الكونية»، فيما تعزل لندن عن جيرانها وأقرب حلفائها.

وصول ترامب إلى البيت الأبيض، وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي ليسا السبب في التحولات الدولية، بل هما تعبير عن واقع البلدين والعالم. واقع تتداخل فيه الصراعات الاجتماعية والطبقية وحكم الشركات مع الشوفينية التي يعبر عنها الرجل بفصاحة. أو هو «ترجمة فجة لواقع الغرب»، على ما يقول وزير الخارجية الفرنسي السابق أوبير فيدرين.