قرار الرئيس دونالد ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل تحول كبير في السياسة الأميركية. الخطوة خالفت قرارات دولية، خصوصاً القرارين 242 و338 اللذين يعتبران الأراضي التي احتلتها الدولة العبرية عام 1967 وبينها القدس الشرقية أراضي محتلة. وشكلت خروجاً غير مألوف على النهج الديبلوماسي الذي اعتمدته واشنطن طوال عقود. كان العالم ينتظر عناوين «الصفقة الكبرى» التي عمل لها الفريق الخاص للرئيس نحو ثمانية أشهر. وكان ترامب وعد بأنه سيكون الرئيس الذي سيرسي السلام، وأنه يعتقد بامتلاكه القدرة على القيام بذلك. لكنه بعد تبنيه موقف بنيامين نتانياهو واليمين المتطرف، لن يكون بمقدوره أن يقدم نفسه وسيطاً عادلاً أو نزيهاً وصادقاً. ولن يكون بإمكانه أن يقنع الفلسطينيين والعرب بالاتفاق الذي يعد لإرساء السلام، أياً كان هذا الاتفاق. بالطبع لم يكن أحد يعتقد بأنه سينحاز إلى الموقف العربي بخلاف ما كان عليه جميع من سبقوه إلى البيت الأبيض، منذ نشوء الدولة العبرية. ولم يكن أحد يعتقد أصلاً بأن الولايات المتحدة وسيط محايد ونزيه. جل ما في الأمر أنها تمتلك 99 في المئة من أوراق الحل، على ما كان يقول الرئيس الراحل أنور السادات. أي أنها ربما وحدها تمتلك القدرة على إقناع تل أبيب وحتى الضغط عليها عند الحاجة. لكنها لم تفعل ذلك. بل كانت ولا تزال توفر لها كل أنواع الدعم الاقتصادي والعسكري لتحفظ لها مرتبة التفوق. وكانت ولا تزال إحدى ركائز إستراتيجيتها في الشرق الأوسط، بل في مقدم بقية المصالح القومية الأميركية من الطاقة وغيرها.
كان الجميع ينتظر أن تطرح إدارة ترامب مشروعها للسلام، بعدما رزع المنطقة ذهاباً وغياباً، فريقه المؤلف من صهره جاريد كوشنير ومبعوثه جيسون غرينبلات وسفيره إلى تل أبيب ديفيد فريدمان. وعقد هؤلاء لقاءات طويلة مع الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني وأطراف عربية أخرى معنية بالتسوية. ذلك أن الإدارة الأميركية رأت وجوب إشراك أكبر قدر من القوى في المنطقة من أجل توفير غطاء لما ستقدم عليه، أو لما ستقدمه السلطة من تنازلات لا بد منها لتمرير الاتفاق المنتظر. وذكرت «نيويورك تايمز» قبل بضعة أيام أن الإدارة تضع العناوين العريضة لهذا الاتفاق. وتوقعت أن يتخذ البيت الأبيض خطوات عملية ويدرس مواقف من القضايا الجوهرية للصراع. ولم يكن أحد يتوقع أن يلجأ الرئيس ترامب إلى مثل هذا القرار الكبير، خصوصاً أنه هدد بإقفال مكتب التمثيل الفلسطيني لكنه أرجأ الأمر. وساد الاعتقاد بأن تهديده نوع من ممارسة ضغوط على السلطة التي بدا واضحاً أنها لم تكن في وارد الموافقة على جملة من تفاصيل مشروع الاتفاق التي قدمت إليها، خصوصاً في ما يتعلق بمستقبل القدس الشرقية التي لم يشر إليها القرار الرئاسي الأميركي. وقد حاول المسؤولون الأميركيون تهدئة الأصوات العربية والإسلامية والدولية الغاضبة التي دانت موقف ترامب بالقول إن بلادهم «لم تتخذ موقفاً من حدود القدس ولا تدعم أي تغييرات على الترتيبات المتعلقة بالأماكن المقدسة»، على حد ما صرحت به المندوبة إلى الأمم المتحدة نيكي هايلي. وترامب نفسه أوضح أن الحدود سيتم تحديدها بناء على التفاوض بين الجانبين مع الاحتفاظ بالوضع القائم في الأماكن المقدسة. لكن هذه المواقف تظل بلا معنى ما دام أن كل الإدارات الأميركية كانت تعترض قولاً على الاستيطان سواء في القدس أو الضفة، لكنها لم تفعل شيئاً لوقفه، على رغم اعترافها بأنه عقبة أساس بوجه أي تسوية!
منح القرار المستوطنين دعماً لم يكونوا يحلمون به. فهم يرون إلى ذاك الاعتراف، كما يخشى كثيرون، بوصفه ينتهي بجعل القدس عاصمة لإسرائيل، شاملاً المدينة كلها. عندها كيف يمكن الرئيس ترامب أن يتوقع امكان تسويق أي اتفاق سواء في أوساط الفلسطينيين أو العرب والمسلمين، فضلاً عن أن القانون الدولي يعتبر المدينة محتلة. أبعد من ذلك إن هذا الاعتراف طاول مصير القضية الكبرى في الصراع، في حين أن ثلاثة عقود من المفاوضات المتقطعة لم تتوصل إلى حل قضايا أقل أهمية. لقد وجه الرئيس ترامب ضربة قاسية إلى الصفقة التي كان يروج لها فريقه. مثلما طوى صفحة طويلة من الديبلوماسية الأميركية المتأنية، وإن على انحياز إلى جانب إسرائيل. سقطت ورقة التين التي كانت إلى الآن تغطي الموقف الأميركي الحقيقي. ولم تعد الولايات المتحدة وسيطاً مقبولاً أو نزيهاً أو مؤهلاً لأداء دور يؤتمن على القرارات الدولية. بالطبع يسهل القول إن الرئيس وفريقه المعني بحل الصراع كشفا حقيقة موقفهما العقائدي المؤيد للدولة العبرية. ويسهل القول إن هذا الفريق ليس متمرساً ولا يعرف دقائق الصراع وتفاصيله وتاريخه… وإلا لما صدر مثل هذا الاعتراف المفاجأة. فهل تخلى سيد البيت الأبيض عن مشروعه للسلام نتيجة تعقيدات وعقبات ويريد تحميل الفلسطينيين المسؤولية ومعاقبتهم تالياً؟
لا شيء يوحي حتى الآن بأن الرئيس ترامب قد تخلى عن مشروعه لإتفاق سلام. ولعله يعتقد بأن الظروف تسمح له بفرض صفقة كبيرة. وبأن الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل سيخلف ضغوطاً نفسية وسياسية على السلطة ويرغمها ربما على تقديم تنازلات. ويمكن والحال هذه وصف هذه الخطوة بأنها ابتزاز للفلسطينيين، بعدما تراجعت قضيتهم في العقد الأخير إلى آخر سلم اهتمامات العالم العربي للأسباب المعروفة. ولا يبقى أي شيء من الصدقية لتصريحات كوشنير بأن الإدارة تعمل على حل يأتي من المنطقة وليس مفروضاً. قرار ترامب عملية فرض قسري، ما دام أنه ينحاز صراحة إلى الجانب الإسرائيلي من دون مراعاة لما تمثل المدينة من رمزية تاريخية ودينية لمئات الملايين من البشر. ومن دون الاهتمام باستقرار دول عربية حليفة تقيم بين حدين متقابلين لا يرحمان، لكنها لا يمكن أن تسكت عن تجاوزه المحظور في كل السياسات الدولية.
الحقيقة أن الأوضاع التي يجتازها العالم العربي سهلت على الرئيس ترامب اتخاذ مثل هذا القرار الذي تحاشاه الرؤساء السابقون. ولا حاجة إلى ذكر ما يعانيه عدد من الدول العربية من حروب ومآسٍ وويلات جعلت كل دولة بل كل مكون في هذه الدولة أو تلك ينشغل بمصيره ومستقبله. فضلاً عن تهاوي النظام الإقليمي وتسابق دول الجوار إلى التمدد والسيطرة والهيمنة، وتأجج الصراع المذهبي. كلها عوامل أضعفت جامعتهم والحد الأدنى من التضامن وأسباب القوة والأمن القومي عموماً. انهارت جيوش وانشغلت أخرى بمحاربة حركات الإرهاب. ولا جدال في أن إسرائيل كانت المستفيد الأكبر من مشهد الخراب الذي يعم الإقليم، ومن تهاوي الدول الوطنية. ولكن على رغم كل هذه الظروف التي أتاحت لترامب أن يتباهى بأنه نفذ وعداً من وعوده الانتخابية، بينما أسلافه الثلاثة تقاعسوا ونكثوا بوعودهم، فإن المساس بوضع القدس ألّب العالم على قراره. فلا تزال المدينة رمزاً جامعاً للعالمين العربي والإسلامي وللعالم المسيحي أيضاً. وهو بهذا القرار المتهور لم يعتبر من الماضي القريب جداً عندما هبّ العالم بوجه نتانياهو ودفعه إلى التراجع عن زرع كاميرات مراقبة في المسجد الأقصى. ولا يمكن ترامب، مهما بدت حاجة الفلسطينيين إلى دور أميركا، أو بالأحرى بدوا عاجزين عن مواجهتها، أن يبدل بقراره هوية المدينة المحتلة، أو أن يفرض وقائع جديدة على الأرض. لقد جازف بوضع المصالح الأميركية في دائرة الخطر والاستهداف. وصب مزيداً من الزيت على النيران المشتعلة في الإقليم. لم يسقط صدقية بلاده فحسب، بل أسقط كل العناوين الإستراتيجية التي نادى بها منذ دخوله البيت الأبيض ولم يكمل بعد عامه الأول. رفع محاربة الإرهاب ومواجهة إيران أولوية الأولويات. ويخشى كثيرون أن يؤجج الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل مشاعر المتشددين إذا كان كل العالم الإسلامي تنادى إلى المواجهة. ودعا إمام الأزهر إلى انتفاضة ثالثة في الأراضي المحتلة. في حين أن طهران التي طالما اتهمها خصومها بأنه تتوكأ على القضية الفلسطينية ومعاداة أميركا وإسرائيل سترفع سقف خطابها السياسي ولغة التهديد والوعيد لتقول إنها كانت على حق في مواجهة المشروع الأميركي – الإسرائيلي.
والحقيقة أيضاً أن الرئيس ترامب يقفز إلى الخارج قفزات بهلوانية كلما اقترب طوق القضاء الذي يواصل النظر في قضية تدخل روسيا في الانتخابات الرئاسية، من عنقه. وهو بهذا القرار لا يحوّل الأنظار نحو القضية الكبرى في الصراع العربي- الإسرائيلي فحسب بل يحاول أيضاً تقديم طوق نجاة إلى نتانياهو المتهم بقضايا فساد. ويأمل الرئيس الأميركي بأن يبادله رئيس الوزراء الإسرائيلي بالتحرك في أوساط اليهود الأميركيين لعله يساعد في الخلاص من التحقيقات التي دخلت داره وتطاول أهل بيته ومساعديه.