ليس جديداً القول إنّ الانتخابات الرئاسية الأميركية هي الأغرب في التاريخ الأميركي، وجاءت نتيجتها المخالفة لتوقّعات السياسيين والمراقبين، وخصوصاً مؤسّسات الاستطلاع، لتزيد من غرابتها.
في الأساس جاء عنوان التنافس الرئاسي الأميركي بين السيّئ والأكثر سوءاً، ولم تكن المفاضلة بين الجيّد والسيّئ أو حتى بين الجيّد والأفضل، وعلى رغم ذلك بلغت المشاركة ذروتها من الشرائح المختلفة للناخبين الأميركيين.
ولم يسبق لأيّ فائز بالبيت الأبيض أن كان منبوذاً من قيادات وازنة في حزبه، ولا أن استخدمَ خطاباً وصَفه كثيرون بالمقزّز، وانتقدَه بشدّة زعماءُ دول كبيرة إلى درجة أنّ البعض أعلنَ مقاطعته دونالد ترامب في حال فوزه.
بالتأكيد هذه المقاطعة لن تحصل ولو أنّ ترامب سيجد نفسَه وسط علاقة صعبة وشائكة مع عواصم دول كبرى ستُلحِق الضرر بالزعامة العالمية المعقودة للولايات المتحدة الاميركية منذ انهيار الاتحاد السوفياتي. كما لم يسبق أن يكون الفائز في الانتخابات الرئاسية الاميركية خاسراً وبفارق بعيد في المناظرات الرئاسية الثلاث أمام منافسه.
ولم يحصل لأيّ مرشح أن أطلقَ انتقادات عنيفة وغير مسؤولة أحياناً ضد مجموعات يتكوّن منها المجتمع الاميركي وأن يفوز في نهاية الأمر. سلوك انتخابيّ غير كلاسيكي، لكنّه متهوّر أحياناً كثيرة، ما دفعَ بأركان في الحزب الجمهوري الذي يمثّله إلى إعلان معارضتهم الصريحة ورفضِهم لتبَوُّءِ الموقع القيادي الأوّل في البلاد.
مرشّحٌ وضَع نفسه في خانة العداء لقطاعات قوية وكبيرة، وأهمّها على الإطلاق قطاع رجال الأعمال والاقتصاديين الاميركيين.
في العادة كان المرشحون لموقع الرئاسة الاميركية يتبنّون سياسة هجومية ضد شخصيات ودوَل عالمية بهدف استقطاب الشارع الاميركي. أمّا ترامب فجاهرَ بإعجابه بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين وأعلنَ ما يشبه التعاون مع الرئيس السوري بشّار الأسد للقضاء على «داعش».
مرشّحٌ شهد فريقُه الانتخابي اهتزازات كثيرة كان أبرزها استقالة ثلاثة مديرين لحملته الانتخابية، وعلى رغم ذلك توِّجت حملته بانتصار كاسح.
مرشّحٌ خاصَمته وهاجمَته أبرز وسائل الإعلام الاميركية المؤثّرة بمزاج الشارع الاميركي إضافةً الى نجوم هوليوود الكبار والرموز المحبَّبة لدى الاميركيين.
مرشّح اعتمدَ سياسة استفزازية رَفعت من نسبة المقترعين ضده في أوساط السود والاميركيين المهاجرين من أميركا اللاتينية والدول الاسلامية، وعلى رغم ذلك فاز، في وقتٍ بقيَت استطلاعات الرأي تعطي ترجيحات سلبية ضدّه حتى لحظات إقفال صناديق الاقتراع.
مرشّح شهدت حياته الشخصية طلاقاً من زوجتين قبل أن يستقرّ على ثالثة حامت حول قانونية دخولها البلاد مخالفات قانونية.
في السابق، كانت العلاقة العائلية المستقرّة شرطاً أساسياً يَنظر إليه الاميركيون بدقّة لانتخاب رئيسهم «المَثل والمثال». هذا عدا الكلام الفضائحي عن حياته الشخصية والذي وُضع في خانة احتقار المرأة والقيَم التي يجب ان يتمتع بها رئيس البلاد. وربّما لو ظهَرت مسائل فضائحية أخرى لَما غيّر ذلك في نتيجة الاقتراع شيئاً، ولذلك اسبابه الكثيرة، ونكتفي بعرض بعضها.
فالشارع الاميركي اقترَع لأسباب داخلية بحتة، وهي الورقة التي شكّلت الدافع الأبرز لفوز ترامب. هو سئم من الوجوه الكلاسيكية التي ضاعفَت من حجم المشكلات الداخلية ولم تقدّم حلّاً طوال العقود الماضية.
وجاءت الذروة مع وصول باراك اوباما أوّل رئيس أسود، وتمّ التجديد له خلافاً لرغبة المجموعة التي تَعتبر نفسَها أساس الولايات المتحدة الاميركية وعمادَها، والمعروفة بـ«الواسب» «WASP». فأوباما هزَم معارضة هؤلاء بأصوات الاميركيين من أصول افريقية وكاثوليك أميركا اللاتينية والجاليات الإسلامية.
لكنّ ولايتي اوباما شهدتا صدامات كثيرة بين السود ورجال الشرطة مع تسجيل ازدياد مطَّرد في الأعمال المخِلّة بالأمن، وهي النقطة التي استفاد منها ترامب من خلال مهاجمة الجالية المكسيكية ليعلنَ باستمرار نيتَه في بناء جدار عند طول الحدود مع المكسيك للحدّ من عمليات التسلّل، وهو على ما يبدو سيباشر بذلك فور تسلّمِه مسؤوليتَه رسمياً.
وفي الداخل الاميركي، انتقادات عنيفة أيضاً ضد الفساد الذي تكثر القصصُ والروايات حوله والذي اتُّهِمت به على الدوام المرشّحة المنافسة هيلاري كلينتون.
وفيما كان القطاع الاقتصادي يخوض حربه ضد ترامب، كانت المؤسسات الأمنية العسكرية تدعمه سرّاً.
وقيل كثيراً عن الدور الذي لعبته مؤسسة الـ»إف. بي.آي» لمصلحة ترامب، بدءاً من عملية الملهى الليلي في أورلاندو حيث سرَت تكهّنات عن أنّ منفّذ العملية كان معروفاً لدى «إف. بي. آي» ورغم ذلك لم توقفه مسبقاً.
أضِف إلى ذلك إبراز هذا الجهاز موضوع البريد الإلكتروني لهيلاري كلينتون قبل أيام من فتحِ صناديق الاقتراع مروراً بـ»مسرحية» تعرّضِه لتهديد رجل مسلّح خلال مؤتمر انتخابي له وإخراجه بالقوّة لإثارة عطفِ الناس قبل أيام من يوم الانتخاب.
كلّ ذلك تَرافقَ مع ارتفاع نزعة التمسّك بالقومية التي تجتاح المجتمعات الغربية كردّة فِعل على الإرهاب «الإسلامي» الذي يجتاح العالم الغربي، والذي كان قد سجّل أولى ضرباته في بريطانيا التي اقترعت لمصلحة الانفصال عن اوروبا، وجاءت خطوة انتخاب ترامب مكمّلةً لهذا السياق الذي سيصيب فرنسا بلا شكّ في الانتخابات الرئاسية في أيار المقبل.
ولكن ماذا بعد عاصفة انتخاب ترامب وتأثير ذلك على الشرق الأوسط؟
يراهن كثيرون على أنّ الرئيس الاميركي المثير للجدل سينكبّ في المرحلة الأولى من ولايته على الوفاء بالحد الأدنى من تعهّداته في الداخل الاميركي وسيَعمل على بناء الجدار الفاصل مع المكسيك وعلى الحد من الهجرة إلى بلاده، خصوصاً للقادمين من أميركا اللاتينية وأفريقيا والبلاد الإسلامية.
وسيدخل في مواجهات داخلية لمصلحة الإمساك بالشارع الاميركي أمنياً بنحو أفضل وبقبضة حديد إذا تمكّنَ مِن ذلك. أي إنّه سيطلق يد رجال الشرطة والمؤسسات الأمنية.
وهو ما يعني أنّه سينكفئ بعض الوقت عن الانغماس المباشر في القضايا الخارجية، ولو بالحد الممكن، وسيكتفي بالتفاهم مع روسيا على الشرق الأوسط والتضييق أكثر على مدارس إنتاج الفكر الإسلامي المتطرّف في الشرق الأوسط والخليج.
أمّا بالنسبة إلى الاتفاق النووي مع إيران، فهو بعدما قال في إحدى المرّات إنّه سيَسعى لتمزيقه، عاد وصحّحَ كلامه معتبراً أنه أصبَح حقيقة حاصلة.
وبالتالي، فإنّ روسيا المرحّبة بوصوله ستُباشر بهجومها العنيف على شرق حلب، في وقتٍ ستندفع القوّات العراقية بشراسة أكبر في الموصل حيث تطمح إيران لإعادة فتح الطريق البرّي الذي يربط ما بين إيران ولبنان عبر العراق وسوريا.
أشهُر مجنونة وملتهبة ستَشهدها ساحات الموصل وحلب لاغتنام الفرصة وإحداث التغييرات الميدانية المطلوبة.
وتكفي الإشارة إلى الميل الإيراني الواضح لمصلحة ترامب، وهو ما عكسَته وسائل الإعلام الإيرانية طوال الفترة الماضية، إضافةً إلى الاحتكاكات العسكرية بين إيران والأسطول الأميركي، وهو ما كان يعد لمصلحة ترامب في خضمّ المعركة الرئاسية.
معارك عنيفة سيكون «حزب الله» طرفاً أساسياً فيها، وخصوصاً في حلب، ما يعني أنّ قيادة «حزب الله» ستتمسّك باستقرار داخلي في لبنان يَسمح لها بالتفرّغ لمعارك حلب وما بعد حلب.
إستقرار في لبنان سيعني وضعَ الملفات السياسية الخلافية جانباً، والعمل على تسهيل ولادة الحكومة طالما إنّ المفاوضات الكبرى ستكون مؤجّلة، وإنّ «حزب الله» سيكون في منأى عن الضغوط المالية والسياسية التي كانت إدارة أوباما قد باشرَت بها بهدف ترتيب مسرح التفاوض.
أضِف الى ذلك أنّ رئيس الجمهورية العماد ميشال عون حليف «حزب الله» في الملفات الإقليمية هو الرئيس الضامن وأنّ الحكومة هي حكومة انتخابات وعمرُها ستة أشهر أو سبعة حداً أقصى.
لذلك قد تصبح معقولةً ولادة حكومة الانتخابات قبل عيد الاستقلال، أو ربّما بعده بقليل، وهو ما يعمل الرئيس سعد الحريري على إنجازه مع رئيس مجلس النواب نبيه برّي، ولكن بعد تدوير زوايا لها علاقة بأحجام القوى السياسية والتي تبدو ضرورية لكي لا تشكّل سابقةً، أو ربّما للثأر من أحداث سابقة كلٌّ مِن زاويته وحساباته.