مستقبل علاقة إدارة الرئيس المنتخب دونالد ترامب مع كل من روسيا وإيران، يُشغل بال أركان الحزب الجمهوري الذي رشح ترامب لمنصب الرئاسة وأعمدة الحلفاء التقليديين الأوروبيين للولايات المتحدة. عنوان القلق من تقارب بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس المنتخب دونالد ترامب يصب في سورية وأوكرانيا، لكنه يطاول أيضاً الحذر من انعدام التوازن بين خبرة بوتين وحنكته ومكره وبين افتقاد ترامب التجربة السياسية وعمق المعرفة بالعلاقات الدولية. التجاذب في شأن مستقبل الاتفاق النووي مع إيران يقع في اتجاهين معاكسين بين القيادات الأوروبية الداعية إلى التمسك بالاتفاق وبين قيادات في الحزب الجمهوري تشدد على ضرورة تشديد مراقبة تنفيذ طهران الاتفاق وأخذ الاستعدادات لإعادة فرض العقوبات عليها وإنذارها بجدية عبر إعادة الخيار العسكري إلى الطاولة، في حال إخلال إيران بالتعهدات أو التلاعب بتطبيقه بحذافيره. بل إن هناك مَن بدأ بالمطالبة باتخاذ خطوات تمهيدية، عبر تعيينات رئيسية في إدارة ترامب، تهيئة لموعد نفاذ الاتفاق بعد 9 سنوات، تكون استباقية لمنع إيران من امتلاك السلاح النووي. الجميع في انتظار تشكيل الحكومة الأميركية في مواقع وزير الخارجية، ووزير الدفاع، والمدعي العام، ومستشار الأمن القومي، ووزير إحدى أهم الوزارات، بل هي أم الوزارات، وزارة أمن البلاد homeland Security. كثر يتموضعون وقلة تعرف هوية أقطاب إدارة ترامب التي – على الأرجح – ستكون مزيجاً من التقليديين في المؤسسة الحاكمة (إيستابلشمانت) ومن المتطرفين اليمينيين إرضاءً للقاعدة الشعبية التي دعمته. الواضح أن ترامب بدأ التأقلم مع متطلبات المنصب لكنه ليس في طلاق مع المرشح ترامب الذي خاض الحملة الانتخابية أو «دونالد» الذي تغلّب على المطبّات في مسيرته كرجل أعمال ووعد نفسه بالوصول إلى البيت الأبيض، ووصل بانفرادية القرار وانفرادية العزم. وهذا هو تماماً موضع قلق الذين يخشون أن تأتي هذه الخامة غير التقليدية إلى الرئاسة الأميركية من دون خبرة حكم أو تجربة سياسية لتتخذ القرارات المصيرية باعتباطية الانفرادية. الذين يدعون إلى التريّث للتعرف إلى دونالد ترامب الرئيس يطلبون الانتظار قبل إطلاق الأحكام، أقله إلى حين تسلمه السلطة في 20 كانون الثاني (يناير). إنما كل خطوة من الآن إلى ذلك الموعد تُرصَد، إن أتت من روسيا في سورية أو إيران في العراق، ذلك لأن الإدارة المقبلة ستتميّز بصورة ما عن سابقتها.
الرئيس باراك أوباما نفّذ بعض وعود دونالد ترامب فعلياً أثناء ولايتيه من 8 سنوات بالذات في مسألة ترحيل المهاجرين غير الشرعيين الذين تم تصنيفهم مجرمين وخارجين على القانون. أوباما اكتسب سمعة «القائد الأعلى للترحيل»، لأنه رحّل أكثر من 2.5 مليون شخص ما بين 2009 و2015. دونالد ترامب بدأ التسلق هبوطاً بقوله أن الفوج الأول من الترحيل سيكون لحوالى 2 مليون مجرم وخارج على القانون وليس لكامل الـ11 مليون مهاجر غير شرعي.
كذلك في مسألة الجدار الفاصل بين الولايات المتحدة والمكسيك، والذي تم بناء ثلثه حتى الآن. ترامب يتحدث الآن عن أجزاء من الحائط الموعود تكون سياجاً لا جداراً. يقول أنه خبير بناء ويعرف كيف يوفّق بين السياج والجدار.
أثناء الحملة الانتخابية، تحدث ترامب بلغة عدائية وتهديدية مع الصين. أما عندما أصبح رئيساً منتخباً، فقد بدأ لغة التواصل والبراغماتية مع القيادة الصينية.
عندما اجتمع مع أوباما في البيت الأبيض لنحو ساعة بعدما كان قد تم تخصيص 15 دقيقة للقاء، خرج أوباما ليصف ترامب بأنه ليس عقائدياً وإنما هو براغماتي ويجب إعطاؤه فرصة قيادة الولايات المتحدة. دونالد ترامب خرج أيضاً من اللقاء مادحاً الرجل الذي تبادل معه أقسى الأوصاف. وعندما سئل عمّا تحدثا ذكر أول ما ذكر منطقة الشرق الأوسط – تلك المنطقة التي كان وضعها في أسفل الأولويات وقزّمها إلى محاربة الإرهاب.
لغته عن السعودية تغيّرت منذ انتخابه رئيساً. مواقفه من النزاع الفلسطيني – الإسرائيلي أفادت بأنه لن ينفذ ذلك الوعد الانتخابي لكل مرشح للرئاسة الأميركية بنقل السفارة إلى القدس. وأفادت بأنه لن يكون «محايداً» بمعنى الابتعاد عن تناول الملف والعمل نحو حل سياسي، بل إنه راغب في إخراج المسألة من الجمود التام والسعي نحو إحياء العملية التفاوضية. أما إذا قرر أن يكون وسيطاً أميركياً يتسم بالحياد، فهذه ستكون نقلة نوعية مهمة – مستبعدة تماماً إذا كانت الأسماء المطروحة لوزير الخارجية على نسق رودي جولياني أو جون بولتون.
جولياني، عمدة نيويورك السابق، يريد منصب وزير الخارجية وهو سيكون من أسوأ الخيارات لو حصل على المنصب. جون بولتون أذكى وأكثر خبرة في الشؤون الخارجية، لكن تفكيره أقرب إلى المحافظين الجدد ومبدأ التدخل العسكري، ما يتناقض مع وعود ترامب الانتخابية باللامبالاة بحروب الآخرين وعدم الرغبة في التورط في أماكن النزاع ورفض مبدأ التدخل العسكري الأميركي.
المستبعد تماماً هو أن يختار ترامب وزير خارجية من الحزب الديموقراطي، إنما هذا لا يعني أنه لن يختار شخصية تهادنية تشبه باراك أوباما عند التعاطي مع روسيا، أو حتى مع إيران إلى درجة أقل، والتفاصيل مهمة.
بالنسبة إلى إيران، لن يكون دونالد ترامب نسخة عن باراك أوباما في درجة التهادنية، ولا في مدى الاستعداد للرضوخ للاتفاق النووي كالمحرك الأساسي للعلاقات الأميركية – الإيرانية. ستقع طهران تحت مراقبة أعمق وأوسع مما هي في عهد أوباما، عندما يتعلق الأمر بتنفيذ تفاصيل الاتفاق النووي. ستكون إدارة ترامب أكثر تأهباً لإعادة فرض العقوبات لدى أي محاولة إيرانية للتحايل على القيود المفروضة عليها بموجب الاتفاق. ستسعى إدارة ترامب وراء استفسار الوكالة الدولية للطاقة الذرية عما تفعله في كل شاردة وواردة بدلاً من ترك الأمر كاملاً لحرية مراقبتها. ستعيد إدارة ترامب طرح جميع الخيارات على الطاولة في تعاطيها مع إيران، بما في ذلك الخيار العسكري.
هذا لا يعني أن إدارة ترامب ستنحاز ضد إيران في معاركها الإقليمية، أو أنها ستتبنى الدول الخليجية كحليف في العلاقات الأميركية – الخليجية – الإيرانية. في أقصى الحالات قد توافق إدارة ترامب على إعادة طرح العلاقات مع إيران من ناحية مشاريعها الإقليمية التوسعية – فقط إذا أجبرتها التطورات في سورية والعراق واليمن ولبنان على ذلك، وليس في إطار العلاقات الأميركية – الخليجية. فإيران تبقى مشروع شراكة الأمر الواقع في الأولوية الأميركية في عهد ترامب، وهي محاربة «داعش». فإرهاب 11/9 ما زال محركاً أساسياً في سياسة أميركا في الشرق الأوسط، ما يفيد العلاقة الأميركية مع إيران التي تزعم قيادة الحرب على الإرهاب. ولكن، إذا أتى إلى مناصب القيادات الرئيسية في الإدارة الأميركية مَنْ يربط بين الاتفاق النووي الذي يعارضه ترامب وبين مشاريع إيران للهيمنة الإقليمية، فسيكون الحديث مختلفاً وربما أيضاً سياسات الإدارة المقبلة.
روسيا موضوع آخر. الدول الأوروبية تعي عواقب تقارب دونالد ترامب وفلاديمير بوتين على حساب سياسات رئيسية بين الاتحاد الأوروبي ودول حلف شمال الأطلسي وبين الولايات المتحدة. بريطانيا في طليعة الدول التي تتخذ مواقف ناقدة ومحذّرة من السياسة الروسية في سورية وفي أوكرانيا وعلى صعيد مبادئ العلاقات الدولية والقيم التي تتحكم بضرورة المحاسبة على تجاوزات تدخل في خانة ارتكاب جرائم حرب أو غض النظر عن استخدام الأسلحة الكيماوية.
تحسباً لما قد تأتي به المودة الشخصية أو التلميحات بنقلة نوعية في العلاقة الأميركية – الروسية في عهد ترامب وبوتين، بدأ الاتحاد الأوروبي إعداد خطة تتحدى روسيا ليس بمعنى «الخطة باء» العسكرية وإنما من منطلق استراتيجية «الوخز بالدبوس» لزيادة الضغوط على الحكومة الروسية وكذلك على الحكومة السورية. هذه الاستراتيجية تشمل فرض العقوبات الاقتصادية وإجراءات العزل الديبلوماسية والاستعداد للمحاسبة والعقاب على جرائم الحرب التي ترتكبها روسيا أو سورية.
روسيا أيضاً لا تسترخي في افتراض علاقات نوعية بمجرد تسلم ترامب السلطة. ربما البعض في موسكو يعتقد أن ترامب مدين لها بسبب وضوح المشاعر الروسية ضد هيلاري كلينتون. إنما هناك واقعية تفرض التفكير في أبعاد احتفاظ الحزب الجمهوري بالكونغرس، وربما اعتزامه مساعدة ترامب على القيادة الأميركية في الساحة الدولية.
روسيا في حاجة دائماً إلى تغذية فكرة العداء مع الغرب، لا سيما الولايات المتحدة. وهي ليست جاهزة للتخلي عن اعتزامها حسم المعركة عسكرياً في حلب – وهذا الأمر لن يغيّر طموح بدء العلاقة مع إدارة ترامب بتهادنية. والفسحة الضائعة، كما تسمى، من الآن إلى 20 كانون الثاني قد تفرض معطيات جديدة على تصور دونالد ترامب للعلاقة الأميركية – الروسية.
ما زال باكراً التنبؤ بما ستحدثه رئاسة دونالد ترامب على صعيد السياسة الخارجية. فالرجل يتأقلم مع المنصب، والمنصب قد يعيد صوغ الرجل، والثابت دوماً هو أن هناك سياسة خارجية أميركية بعيدة المدى تتعدى الاعتبارات الشخصية.