IMLebanon

استراتيجية ترامب: الحثّ على «بدائل» لملء الفراغ… ولا هدايا مجّانية للخصوم!

استراتيجية ترامب: الحثّ على «بدائل» لملء الفراغ… ولا هدايا مجّانية للخصوم!

سيّد البيت الأبيض يرمي الكرة في ملعب الآخرين… والعارفون بالرجل يستبعدون الذهاب إلى حرب مع إيران

 

رسالة مكرّرة إلى الحلفاء: آن الأوان للانخراط في الميدان فقد انتهى زمن دور الشرطي والقتال بديلاً عن الآخرين

 

أي عيدية أفضل للشعب الأميركي من أن يخرج رئيسه عشية الميلاد ورأس السنة، ليعلن أن الوقت حان لبدء عودة الجنود الأميركيين من سوريا إلى وطنهم  بعد سنوات على قتالهم تنظيم «داعش» هناك؟ لا شيء سيضاهي فرحتهم بأن مَن انتخبوه يفي بوعوده الانتخابية التي قطعها، ومنها أن أبناءهم لن يقاتلوا خارج بلادهم لحماية الآخرين. هذه نقطة إيجابية يُضيفها دونالد ترامب إلى رصيده الشعبي، ويعزز ثقته بناخبيه الذين لم يخذلهم بما وعد به مطلقاً.

الصورة تتبدّل حين يتخطى النقاش البُعد الشعبي إلى تداعيات مثل هذا القرار المرتبط بالسياسة الخارجية الأميركية ودورها وموقعها، وتأثير ذلك على حلفائها. لا شك في أن ثمة قراراً لترامب مفاجئاً في سرعته بالنسبة للحلفاء والخصوم على السواء. صحيح أنه لم يأتِ من فراغ، لأنه سبق له، قبل أشهر، أن أعلن عن رغبته في سحب قواته من سوريا، لكنه عاد وتراجع بناء على نصائح إدارته ودعوات شركائه في التحالف الدولي، الذين وعدوا بالانخراط بشكل أكبر في المهمة للحفاظ على ما تم إنجازه في هزيمة «التنظيم»، سواء أكان عسكرياً أم لوجستياً أم مادياً، الأمر الذي تمّ الوفاء به جزئياً من قبل الحلفاء، فيما – على خط مواز – التفاهمات بين ترامب ونظيره الروسي فلاديمير بوتين نُفذت بنود منها، التي تتعلق بجنوب سوريا، وبقيت بنود أخرى معلقة، في وقت يخوض سيد «البيت الأبيض» مواجهة حاسمة مع إيران في المنطقة، ويتحضر لإطلاق خطة السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين خلال الأشهر الأولى من سنة 2019، والتي يعمل عليها صهره وكبير مستشاريه جاريد كوشنر.

ما فعله الرئيس الأميركي أنه رمى الكرة في ملعب الآخرين، من أوروبيين وعرب إلى روس وأتراك. في نظرة داعميه، أن الخطوة عكست ارتياح «مراكز أبحاث» قريبة منه كانت ترى أن لا خطة واضحة مشتركة  مع الجميع حول سوريا. الأوروبيون لديهم حساباتهم التي تنعكس بشكل أو آخر على قراراتهم وأدائهم في كثير من الملفات، والعرب مترددون. ففي مضامين السؤال عما إذا كانت الولايات المتحدة تريد أن تبقى شرطياً في الشرق الأوسط؟ رسالة مكررة إلى الحلفاء من دول خليجية، عربية، وإسلامية  لتحمّل القسط من المسؤولية المتعلق بهم، وليس الكلام هنا يتناول التمويل والتعويض، بقدر ما يتعلق بالانخراط الميداني. فأميركا ما عادت تريد الجزّ بجنودها في أتون حروب خارج حدودها، وهي ترى أنها قادرة على توفير كل الدعم والمساعدة والتدريب والتقنيات والإدارة والضربات الجوية والعمليات التي لا تتطلب تواجد جنودها في المعارك، بما يحميها من تكرار تجارب الحروب الأميركية السابقة حيث لا يزال المجتمع الأميركي يعاني من آثار حرب فيتنام، وحربي العراق وأفغانستان ولو بنسبة أقل، ولا يزال الجنود الأميركيون موجودين في هذين البلدين.

المطلوب من زعماء الدول الحليفة الخليجية – العربية الذين التقاهم الرئيس الأميركي في الرياض عام 2016 في أول زيارة له إلى الخارج بعد توليه الحكم، أن يعقدوا العزم ويشكلوا «الناتو العربي» كي تتولى هذه القوة العسكرية المهمّة على الأرض في سوريا وحدودها الفاصلة عن العراق حيث الأماكن التي يتواجد فيها الأميركيون. هنا المملكة العربية السعودية والإمارات ودول خليجية أخرى ومصر والأردن معنية بهذا الأمر، وفق ما يعيده المنظرون لإدارة ترامب، والذين سمعوا أكثر من مرّة في اجتماعات  لهم في «البيت الأبيض» امتعاضاً أميركياً من تلكؤ الحلفاء العرب في الشرق الأوسط. والمواقف الأوروبية خلال الساعات الماضية، التي تُعبّر عن الصدمة من قرار الانسحاب، تعكس حجم الارتباك الذي سبّبته هذه الخطوة، التي ستدفع إلى إجراء مراجعة  تتعدّى الملف السوري إلى غيره من الملفات الأخرى.

هؤلاء لا ينتابهم أيّ قلق من أن يكون الانسحاب الأميركي مقدّمة لتهيئة الأجواء لـ«مواجهة عسكرية». فترامب، وفق معرفتهم به، ليس رجل حرب، وتعزيزه لقدرات جيش بلاده هدفه تفادي الحرب لا الذهاب إليها. ولا يرون كذلك وقائع قوية لحرب إسرائيلية شاملة مع «حزب الله». تل أبيب قد تقوم بضربات محددة، حيث هناك ما يشكل تهديداً راهناً لها، لكنها ليست في وارد القيام بعملية اجتياح كبرى، كما في العام 1982، لن تُفضي إلى مكاسب سياسية في الوقت الراهن.

لكن الانسحاب، إذا لم يترافق مع خطة مدروسة، سيُدخل تحوّلات كبيرة على الخريطة السياسية والجغرافية في سوريا وعلى اللاعبين فيها وموازين القوى المتحكمّة بها. ما هو غير واضح بعد، حدود التفاهمات التي قد يصل إليها ترامب مع نظيره التركي رجب طيب أردوغان، القَلِق من تمدّد أكراد سوريا ونزعتهم إلى كيان سياسي على حدود بلاده، الذي هو أحد عوامل اهتزاز العلاقة مع واشنطن، الداعمة الرئيسية لقوات «سوريا الديموقراطية» التي تضم فصائل عربية تمثل العشائر، لكن الثقل فيها لوحدات حماية الشعب الكردية المصنفة تركياً إرهابية.

في جزء من حسابات ترامب، كيفية إعادة احتواء تركيا التي تسعى روسيا وإيران إلى تكريسها ضلعاً ثالثاً في حلف لا يكون آنياً مصلحياً تفرضه الحاجة إلى حماية دورها وموقعها في  التسوية السورية وما سيترتب عن ذلك. الحلف المثلث الروسي – التركي – الإيراني هو حاجة راهنة لكل من هذه الدول التي تتكئ بعضها على بعض لتأمين متنفس لها يُعزّز صمودها في وجه العقوبات، وإذا  كان مفتوحاً على مزيد من الثبات، فإنه سينعكس على التوازنات الاستراتيجية في المنطقة.

لكن منظّري الرجل، والذين لم يستسيغوا قراره كثيراً، يعتبرون أنه لا يمكنه، رغم كل حساباته، أن يذهب باستراتيجيته إلى حدود تسليم المنطقة التي كان يتواجد فيها جنوده إلى الأتراك أو الروس، وأن يتخلى بشكل كليّ عن الأكراد والعشائر العربية شرق الفرات. فالانسحاب سيمتدّ حتى المائة يوم، وهي مدّة ليست بالقصيرة لرسم معالم البدائل على الأرض. ولا بد تالياً من التوقف ملياً عند مقترح المبعوث الأميركي إلى سوريا جيف جيفري بإقامة منطقة حظر جويّ وبريّ شمال شرق نهر الفرات، مع بقاء قوة محدودة حتى تطبيق القرار الدولي 2245 الذي يتحدث عن مرحلة انتقالية لسوريا. هذا المقترح قد يكون في خلفية مشهد الإعلان عن الانسحاب، كإحدى الخطوات المستقبلية في عملية رسم الخطة البديلة مع الحلفاء لمن سيملأ الفراغ!

الأكيد أن خطوة كإعلان الانسحاب الأميركي من سوريا ستُربك الجميع، وفي مقدمهم الروس، الذين وإن اعتبروها صائبة فإنهم يبحثون عن القُطَب المخفيّة والأهداف الكامنة وراءها. ليس ترامب «التاجر» من طينة الرجال الذين يقدمون هدايا مجانية، فلا تاجر يُقدِم على ذلك!.