Site icon IMLebanon

«القيصر»: أنا أو «السلطان»!

معاهدة «كوجوك كاينارجا»، اختتمت الحرب بين السلطنة العثمانية والقيصرية الروسية عام 1774. لم تقتطع المعاهدة أراضي واسعة من السلطنة العثمانية لصالح روسيا، لكنها كانت المعاهدة الأكثر جوراً، لأنّها عرّت «السلطنة« من نفوذها حتى داخلها مثل وضع قلاع «كينيرن« و«جنيكال« و«كيرنش« تحت سيطرة موسكو مما أضعف قبضة السلطنة على البحر الأبيض المتوسط وأنهى سيطرتها على البحر الأسود الذي كان يُعتبر حتى ذلك الوقت «بحيرة« عثمانية، وفرضت موسكو على السلطنة أن تدفع جزية بلغت 15 ألف كيس ذهب. بهذا وُضعت «السلطنة« العثمانية على سكة «الضعف والاضمحلال».

«القيصر» الجديد فلاديمير بوتين لا يمكنه الدخول في حرب شاملة ضدّ تركيا مهما بلغت طموحاته. تركيا دولة أطلسية، الحرب ضدّها قد تشعل حرباً شاملة، لا موسكو تريدها ولا الحلف الأطلسي يرغب فيها. لكن يبدو أنّ الحوادث الصغيرة التي تقع على وقع طموحات كبيرة توقظ التاريخ رغم كل التحفظات والاحتياطات.

طبعاً، رغم بقاء الجغرافيا العامل المحرّك للتحالفات، فإنّ المصالح الاقتصادية في زمن ممنوع فيه الحروب الكبرى، تشعل أكبر المواجهات بالوكالة، أو المباشرة مع الالتزام بخطوط حمراء تحول دون كسر دوائر النار وتحويلها إلى حقول مفتوحة على كل الأخطار والمخاطر.

إسقاط تركيا «السوخوي ـ24» الروسية شكّل الوقود اللازم لإشعال نار كامنة بين روسيا وتركيا، لأنّه من غير المنطقي أن تكون هذه «الحادثة الصغيرة» السبب في انفجار كل هذا الغضب «القيصري». بوتين يريد بلا شك «تحجيم» تركيا، ووضع حد لطموحاتها القديمة الجديدة التي ظهرت على السطح مثل جبل الجليد الكامن الذي لا بد أن يظهر مهما كان العمق الذي وصل إليه.

سوريا أضاءت بنار الحرب فيها التنافس الروسي التركي الذي يكاد يصل إلى المواجهة. أيضاً لا يمكن حصر أسباب الصراع على سوريا، بالعشق الروسي للرئيس بشار الأسد، ولا بالإرادة التركية في «دمقرطتها». من الطبيعي والضروري أن تكون الأسباب أعمق من ذلك بكثير.

لقد وضع «القيصر» بنفسه حدوداً للمواجهة مع تركيا، فقد حصرها مع الرئيس طيب رجب اردوغان وسلطته، وليس مع تركيا. علماً أنّ هذه دعوة روسية صريحة للشعب التركي للعداء مع قيادته التي لم تمضِ أسابيع على اقتراعه لها ومنحها الأغلبية المطلقة. هذا العداء لاردوغان وحزب «العدالة والتنمية» يبدو غريباً، لكن «متى عُرف السبب بطُل العجب» كما يُقال. يعتبر «القيصر» أنّ «السلطان» أراده أن «يخاف» وينسحب من سوريا. بدلاً من ذلك قرّر بوتين مواصلة الضربات الجوية طالما أنّ الجيش السوري يواصل عملياته. باختصار قرّر بوتين تمديد وجود قوّاته في سوريا.علماً أنّه منذ البداية لم يعد الجيش الروسي إلى شواطئ البحر المتوسط لينسحب ويترك هذا الموقع الاستراتيجي لإيران وحدها أو لتركيا أو لكليهما. مصالح موسكو كما تتوضّح يوماً بعد يوم أكبر من ذلك بكثير، فهي تمتد من شاطئ البحر المتوسط إلى قلب أوروبا الشمالية مروراً بكل ما كان يُعرف بأوروبا الشرقية. «عمود» هذه المصالح الغاز وأنابيبه.

موسكو تريد استمرار «إمساكها« بأوروبا الممتدة من اوكرانيا إلى فرنسا بأنابيب الغاز أولاً وبالغاز نفسه ثانياً. الأنابيب تحوّلت مع الوقت إلى «قيود» تجبر الدول التي بحاجة إلى الغاز، دفع «الثمنين» المالي والسياسي. لذلك يرفض ويعمل «القيصر» وبالتعاون مع «المرشد» الإيراني على إفشال مشروع الأنابيب التي تمتد من الدوحة إلى تركيا. وتعمل مع إيران على إقامة خط يمتد من إيران إلى اللاذقية. دعم موسكو للرئيس بشار الأسد القوي والمفتوح بدأ مع رفض الأسد طلب الرئيس السابق نيكولا ساركوزي وأمير الدوحة حمد بن خليفة خلال لقائهم في الاليزيه تمرير أنبوب الغاز القادم من الدوحة إلى تركيا عبر سوريا.

لذلك تقاتل موسكو من أجل قطع الطريق على مشروع خط الدوحة تركيا، ولذلك أيضاً قرّرت الدوحة تعميق تحالفها مع أنقرة أمنيا ودفاعياً عبر إقامة قاعدة عسكرية تركية فوق أراضيها. وأيضاً فإنّ التدخّل الإيراني العسكري مباشرة «بالمستشارين» وقوات «حزب الله» والميليشيات الشيعية في القلمون إنّما يعود كما يقول الخبراء إلى وجود أضخم حقل غاز يفوق المقدّر فيه ما يفوق المقدر في جبل الشاعر على بُعد 50 كلم من تدمر.

ملاحظة أخيرة أنّ تمدّد إيران في نيجيريا وما حولها عبر «تشييع» بعض القبائل ليست أهدافه عقائدية مذهبية فقط، وإنّما للإمساك مستقبلاً بخط أنابيب الغاز المرسوم والذي يمتد من نيجيريا إلى الجزائر عبر النيجر، حيث يتم تسييله ومن ثم تصديره إلى أوروبا.

«القيصر» ليس «اللاعب» الوحيد ولا الأكبر، لذلك مهما بلغت قوّته وبراعته واستعداده للذهاب إلى حافة الهاوية والتهديد بإطلاق النار على كل مَن يعترض طريقه خصوصاً «السلطان»، فإنّ عليه في النهاية الجلوس إلى طاولة المفاوضات مع «السلطان» وتقديم التنازلات المتبادلة، لأنّ زمن عقد معاهدة من نوع «كوجوك كاينارجا» انتهى ولن يتكرر.