ليس بالأمر المستبعدَ أن نقرأ ذات يوم على شاشات الفضائيات أن طائرة روسية ثالثة تمّ إسقَاطها أو أن طائرة ركاب مدنية روسية جرى خطْفها ثم تفجيرها. فما نقوله من باب الإحتمال حدث فيه الكثير في الثمانينات وتناثرت طائرات ركاب بمن فيها فوق مياه البحر أو على أرض صحراوية أو بالقرب من غابات… هذا عدا تلك التي جرى تفجيرها على أرض مطار.
الوقائع كثيرة وهي واردة التكرار ما دام لا أحد من حكام الدول الكبرى يُقرّر الإقدام على إيجاد مخرَج لحالات الظلم. ومن هذه الدول روسيا التي يتصرف «قيصرها» الجديد على أنه صديق وهو كذلك إلى حدّ ما، لكنه صديق نظام وبصرف النظر عمّا يفعله هذا النظام.
ربما يطول زمن الدور الروسي المستهجَن الذي أراده الرئيس بوتين ويعززه خطوة خطوة بكل أنواع السلاح المتقدم متردداً في إرسال قوات برية إلى سوريا خشية أن يفاجأ ذات يوم بأن مجموعة من أفراد الجيش الروسي العامل في سوريا إنتهت في الأسر لدى تنظيم من التنظيمات السورية مثل «النصرة» وغيرها تماماً على نحو ما أصاب عدداً من العسكريين اللبنانيين الذين طال أسرهم ومن دون أن تثمر المحاولات في إستعجال فك هذا الأسر.
كما قد يفاجأ الرئيس بوتين ذات يوم بواقعة أو أكثر تحدث لقواته على الأرض السورية على نحو ما حدث للقوات الأميركية التي حاربت الشعب الفيتنامي دون وجه حق وإرتكب أفرادها الكثير من الجرائم في حق شعب فيتنام، لكن إرادة الفيتنامي كانت أكثر صلابة من العدوان الأميركي بدليل أن القوات الأميركية إنسحبت هرباً من فيتنام التي طالت سنوات محنتها وعلى نحو ما تعيشه سوريا.
ولقد إفترض الشعب الروسي الذي طالما عانى من سنوات الحُكْم القاسي في العهود الشيوعية وكيف أن مغامرات الذين تعاقبوا على الحكم أوصلت أحوال الإتحاد السوفياتي، وبالذات بعد الخيبة الأفغانية والإستهانة من جانب مصر الساداتية، إلى وضْع يحتاج إلى الحاكم الذي يرمم الأوضاع إقتصادياً خصوصاً أن الجمهوريات تناثرت وباتت كل جمهورية مهتمة بأمر حالها.
وعندما إنصرف يلتسين الذي لم يتصرف كمنقذ، بعدما خطف الدور والحق من غورباتشوف، وأورثْ الحُكْم إلى فلاديمير بوتين فإن الروس إستبشروا خيراً على أساس أن هذا الوريث شاب وأنه يتسلم دفة القيادة في السن المشابهة لسن جون كينيدي عندما إنتُخب رئيساً للولايات المتحدة عام 1961، وفي السن المشابهة لتوريث الدكتور بشَّار الأسد الحُكْم في سوريا. لكن كما أن كينيدي خيَّب ظن الأميركان به بعدما قادت إدارته العالم إلى مشارف المواجهة النووية في أثناء الأزمة مع كوبا وربما كانت ستحدث هذه المواجهة لاحقاً لو طالت ولايته ولم يتم إغتياله يوم 22 تشرين الثاني 1963، فإن الدور السوري بعد الدور الأوكراني هما مشروع تخييب الظن الروسي برئيسهم الذي إفترضوه منقذاً للوضع الإقتصادي والمعيشي ومصححاً للأجواء الخانقة في مجال التعبير والممارسة الديمقراطية فإذا به يقود بعقلية رجل المخابرات وليس رجل الدولة، وما الدور الذي إرتآه تفعيلاً في سوريا سوى دلالة على العقلية المشار إليها.
وقد نجد من يشبِّه طريقة التفكير لدى الرئيس بوتين بتلك المعروفة عن الرئيس بشَّار والتي يشكِّل العناد أبرز ملامحها. وهذا صحيح إلى حدّ ما. لكن التساؤل إزاء الذي جرى هو: لماذا لا تكون المرونة وسيلة تعامُل مع الأزمات، ولماذا لا يستحضر الرئيس بوتين ما الذي أصاب سمعة أميركا ومجتمعها من الدور غير النظيف الذي قامت به في فيتنام والذي يبدو أن الرئيس بوتين يستنسخ هذا الدور معتبراً أن التحرش التركي لإحدى طائراته التي تقذف مَن على أرض سوريا بصواريخها هو «طعنة في الظهر» أو كما قال لاحقاً ديمتري بسكوف المتحدث بإسمه أن إسقاط الطائرة «جنون وتحد غير مسبوق» فيما المشاركة في تمزيق سوريا هو لقمة سائغة في الفم… عِلْماً بأن المثل الروسي الشائع يقول «من يِرْمِ الشوك لدى جاره يرَهُ ينبتُ في حديقته…»، وأما حول ما يتعلق بطلب الرئيس بوتين من الرئيس اردوغان «الطاعن في الظهر» وعدم إستعداد «السلطان العثماني» الجديد لتلبية الطلب مستبدلاً ذلك برغبة لقاء الرئيس «المطعون في الظهر» على أرض ثالثة (فرنسا) فإننا نرى التفسير في القول الطيِّب للإمام علي رضي الله عنه «الإعتراف من غير ذنْب يوجب على نفسه الذنْب…».
وهكذا فإذا بقي «القيصر» على طلبه وهو المعاند المجروحة مهابته وفي الوقت نفسه يُعزّز الوجود الحربي الروسي في سوريا، وبقي «السلطان» على رفْضه وهو المعتمِد على جناحه الأطلسي وجناح شعبيته التي باتت قوية في الإنتخابات الأخيرة، فإن المنطقة ستكون لا سمح الله مقبلة على جولة صراع من نوع جديد بين «قيصر» عنيد و«سلطان» أعند.
والله هو المنقذ للمنطقة من هذه المناطحة المتوقعة في حال وصَل تفريغ الإحتقانات والغضب إلى لا إقتناع بالتصافي والتعقل.
وما دمنا في زمن إستنساخ «السلطان» و«القيصر» فإن الإثنيْن ربما يستنسخان ما سبق أن حدث قبل 162 سنة عندما ألحق الجنرال التركي عمر باشا هزيمة بقوات القيصر نيقولا الأول. ويومها قال هذا المهزوم «أشعر أن يد السلطان على خدي».. أي ضربة كف.
لكن الطعنة في الظهر أشد إيلاماً على النفس والهيبة، إنما في حال كان الرد عليها ضمن إعتبارات تقضي بترجيح كفة الوطن والشعب على كفة الشخص «قيصراً» كان أو رئيساً مثل الدكتور بشَّار الأسد تفاءل السوريون والعرب خيراً به لكنه صدمهم بخياراته وبعناده وبإدارته التي جعلت سوريا ملعباً بعدما كانت لاعباً، وجعلت إسرائيل تُكثر من المناورات الإستفزازية على الحدود مع سوريا ويقول أحد قادة سلاحها الجوي «إننا لا نطلب إذناً من روسيا لمهاجمة أهداف سورية». يا لهذه الخيبة من تعليق الآمال.