Site icon IMLebanon

تسيبراس جنبلاط ليس لبنانياً

«أين هو تسيبراس لبنان؟»

سؤال وليد جنبلاط غلط. هو اشتهاء أو تمنٍّ أو رغبة. هو من باب التحسُّر والفقدان. هو ضرب من المستحيل. قد يكون العالم مكتظاً بمن يشبه رئيس وزراء اليونان، في إسبانيا تحديداً يقود حركة «بوديموس»، أو في البرتغال، أو في بورتو الليغري، أو في أميركا اللاتينية الخصبة، أو في ما كان يدعى أوروبا الشرقية.

تسيبراس اليوناني، ليس فريد زمنه. سبقه ليش فاليسا. خرج من مصانع بولونيا إلى السجن فالسلطة، بإرادة الناس. فاكلاف هافل، قاد من سجنه حركة تمرد ضد الطغيان والالتحاق. بلّغ الرئاسة ومضى… وكثيرون في هذا العالم الواسع، سبقوا تسيبراس، وغيّروا العالم، إلا في لبنان. لبنان، صاحب التفوق المبرم في إنتاج القطعان المطيعة، التي تسير فيه النخب بلذة الانتماء إلى القيد الطائفي والمذهبي. كمال اللبناني وتمامه، في اتّباع الصراط الطائفي المستقيم.

تسيبراس اليوناني، من اليونان وليس من لبنان. جاء إلى السلطة من معاناة اليونانيين وليس من مظلومية أرثوذوكسية، وليس بسبب ديون كارثية فرضتها مجموعات من الدول الكاثوليكية أو البروتستانتية. خرج تسيبراس من وجع الناس وصلافة الرأسمالية المقنّعة بالليبرالية، المستحوذة على حسن سير السوق، باتجاه المركز، وليس باتجاه الأطراف. خرج، ولم يكن وحيداً. كانت جموع قد فقدت رواتبها ومدخراتها ووظائفها وتقاعدها. كانت جموع قد تحولت إلى عاطلين من العمل ومعطلين عن الأمل. أكثر من ثلث اليونانيين بات فقيراً، لا يعرف كيف يداوي يومه. لا يعرف كيف يصل إلى مسائه بعد كل صباح بائس.

عرفت النخبة النضالية في اليونان بيت الداء: الديون رهنت البلاد إلى نصف قرن حتى الآن. تسديد الديون سيقع على عاتق المكلف اليوناني إلى ما بعد مماته ليطال أجيالاً أخرى. عبقرية رأس المال المجرمة أنه يمنحك المال ديناً، يسترده منك بشراء السلع منه، ويطالبك بالفوائد وإعادة الأصول… الأموال المغرية التي سبحت بها بيوتات المال المركزية، الأوروبية والعالمية، وضعت في مستودعات المصارف، لتنفق في مشاريع استهلاك وتسليح. مصارف يونانية حظيت بأموال أوروبية، مطلوب من الشعب اليوناني أن يسددها. والفجور الرأسمالي يظهر في كيفية إنفاق المال، على التسلح وعلى شراء غواصة… الشعب اليوناني عاش كفاف حياته، في ظل ديون متدفقة وعملاقة، ولا إمكانية لسداد الفوائد. والمأساوي، أن تصبح مداواة الداء بالداء. أي معالجة عجز خدمة الدين، بالمزيد من الديون.

أليست هي حالة لبنان في إصدارات «اليورو بوند» وشقيقاتها؟

فرضت دول الاتحاد الأوروبي على اليونان، برامج تقشف منذ خمسة أعوام. قبلت حكومات اليمين الرأسمالي ذلك. دفعت البلاد «الجزية» من لحمها الحي، من معاشها الشهري، من وظائفها الرثة. جمعت حكومات اليونان المطيعة الأموال اللازمة لسداد الديون المفترسة. تدهورت أحوال العائلات والخدمات. سقطت الشرائح الدنيا من الطبقة المتوسطة إلى مرتبة الفقر والضياع. شعر اليونانيون بالمذلة. الديون التي لم يكن لهم يد فيها، أخذتهم إلى الفاقة والمذلة. من هنا جاء تسيبراس. لم يأت من كاتدرائية أو من مسجد أو من محفظة مصرفية متخمة بالأموال المنقولة، بقاطرات الولاء إلى مراجع نفطية غير سيادية.

عبقرية تسيبراس أنه كان إنساناً طبيعياً، حراً وغير مرتهن، ويمتلك إحساساً وتحليلا وقيماً، فقدتها قوى يسارية كثيرة في العالم. لا نقصد اليسار اللبناني أو «اليسارات» العربية. أكثرها بات في حضن اليمين، أو في أحضان البحبوحة النفطية ويعيش في طمأنينة الانتماء إلى مذهبه أو طائفته… شيء من موت الضمير. يسار بلا ضمير، مؤمن بلا ضمير، ذروة الانتهازية.

عبقرية لبنان تتفوق على عبقرية تسيبراس.

اكتشفت الطبقة السياسية، من زمان، إيمانها بقوة المال. تصاحب ذلك مع هجمة الأثرياء إلى تولي السلطة بأنفسهم، بدل إيلائها لمن يمثلهم. فقدوا الحياء الأخلاقي. «غولدمان ساكس» أقوى من البيت الأبيض. البنوك المركزية والمصارف الكبرى تتحكم بالحكومات المنتخبة ديموقراطياً. «الحريرية» هي الابنة الشرعية لزواج السلطة والمال. المذهب هذا شاع في لبنان. تولى البلدَ زعماء الطوائف فيه، فصاروا شركاء تحت لافتة المحاصصة، التي يفرضها «العيش المشترك».

لكن لرأس المال نفوذه على الناس. إذا استقل رأس المال عن الطائفة، خلق أتباعاً له أقوياء، وأصحاب مصالح مستقلين، وضحايا كثيرين، يلوذون بمنطق العدالة والمساءلة والمحاسبة ومحاربة الإفقار وكشف الفساد. الرأسمالية تخلق قطعانها. تفرز المنتفعين القلة عن الكثرة المستغلة. زواج الطائفيين والرأسمالية المحلية والإقليمية، يوحّد القطعان في صفوفها المذهبية، ويمنع خروجها لتكون اصطفافات طبقية، مؤسسة على المصالح والحاجات والآمال والتطلعات.

في هذا الزواج، مُنعت الرأسمالية من أن تكون أداة فرز. بيت المال، تؤمنه زعامة الطائفة. الزبائنية مخدومة وخادمة. تضخ أموالاً وتتلقى ولاءات. وحتى الآن، لا نقص في مالية الطوائفيات. الدولة مفتوحة أمامهم، والاستدانة سهلة والوفاء… على عاتق اللبنانيين.

بلى! في لبنان نُخب تتفوق على تسيبراس، نستذكر منهم أميل البيطار، كمثال مضيء، وثمة كثيرون حاولوا مثله فكانوا ضحايا إرهاصات التغيير القليل.

لذا.. فإما وليد جنبلاط وإما تسيبراس. الاثنان لا يلتقيان أبداً في لبنان. الأول إلغاء للثاني، برمشة عين. وجنبلاط ليس وحيداً. أمثاله قادة للبنان. نظامه السياسي جائزة لهم، يتوارثونها بشرعية «شعبية» مبرمة. وأرباحهم منه وفيرة ولا تنضب. فكيف يتخلّون عن رصيد «شعبي» موروث، بلا تعب، وأرصدة مالية لا ينضب معينها الداخلي والخارجي.

سؤال جنبلاط عن تسيبراس اللبناني يفترض أن يدفع النخب للإجابة. الطائفية غير مقصرة في خدمة قادتها، والرأسمالية ترفدها. على أن ما نحتاج إليه، هو فسحة للنخب المستقلة لتلتقي.. وتبدأ مسيرة التغيير.