يحزن المرء عندما يرى أي حال إنتهت إليها ليبيا وكيف أن الشعب الليبي الذي خصّه الله سبحانه وتعالى بثروة وطبيعة وموقع إستراتيجي، يعيش منذ سنين أسوأ أنواع الفوضى والرعب لا تستقر له حال ولا تتوحد القلوب وفي كل يوم مزيد من الإنقسام ومزيد من الدمار. كما أن ظاهرة التدمير الممنهج للمؤسسات ومن بينها صولات وجولات تستهدف المطارات والطائرات، تترك إنطباعاً بأن بعض الجماعات في ليبيا كما بعض الجماعات في اليمن تستنسخ الأسلوب المعمول به في سوريا والذي بفعل عناد النظام وجاهلية بعض المنتفضين عليه أدى إلى أن سوريا الكيان والتنوع والشأن الإستراتيجي والمخزون الهائل للإنتاج الزراعي ينتهي إلى إندثار.
وبقدْر ما يحزن المرء لهذه الحال التي تعيشها ليبيا، بالقدْر نفسه يفرح لما أنجزتْه شقيقتها تونس بدءاً من التعامل مع الإنتفاضة التي تريد التغيير ثم التعامل الحذِر والمسؤول مع مرحلة ما بعد إسقاط النظام وصولاً إلى بدء ولادة الجمهورية الثانية يوم الأحد 21 كانون الأول 2014 بإنتخابات رئاسية كانت مبهرة بكل المقاييس وأرجعت السمعة المعروفة عن لبنان إلى الصفوف الخلفية. ونقول بدء ولادة الجمهورية الثانية على أساس أن الفترة الماضية التي تولَّى رئاسة الجمهورية فيها محمّد منصف المرزوقي كانت في عموم ملامحها جمهورية إنتقالية وأن رئاسة المرزوقي كانت إلى حدّ ما مثل رئاسة المستشار عدلي منصور في مصر، أو فلنقل إنها الجسر الذي عبر عليه أخواننا التوانسة من الجمهورية الأولى التي كان إستيلادها على يديْ الحبيب بورقيبة رحمة الله عليه إلى الجمهورية الثانية التي يتم إستيلادها مصادفة على يديْ البورقيبي النهج والهوى الباجي قائد السبسي. وأما القول بأن إنتخابات الرئاسة التونسية التي جرت الأحد الماضي (21 كانون الأول) بأنها إلى كونها أثلجت صدور الشعب التونسي وكشفت إلى أي حدّ لا يحافظ الليبيون على بلدهم ولا يرومون إستقراراً كما حال التوانسة الفقراء نسبياً بالمقارنة مع الثراء الليبي، أرجعت السُمعة المعروفة عن لبنان إلى الصفوف الخلفية، فلأن اللبنانيين الذين يتقاسمون مع التوانسة الأمجاد الفينيقية خذلوا هذه السُمعة عندما لم يتصرفوا على النحو الذي يحقق إنجاز الواجب الدستوري فلا يتم إنتخاب رئيس للجمهورية ويتزايد الجدال العقيم في هذا الشأن، فيما أخواننا التوانسة تصرَّفوا بكامل المسؤولية وإنتخبوا رئيساً لهم ومن دون أن تسقط نقطة دم. بل إن السلوك الديمقراطي في العملية الإنتخابية كان أمثولة يحتاج إلى الإقتداء بها العابثون بالأصول في لبنان.
ونحن عند المقارنة نجد أوجه شبه في بعض القضايا العالقة في كلا البلدين، لكننا بالنسبة إلى التوانسة نجدهم يتحاورون من دون الحاجة إلى جلسات حوار ومن دون إعتبار الحوار من المعجزات. ونجدهم قبل الإنتخابات الرئاسية يحققون مشهداً محترماً من خلال الإنتخابات البرلمانية. وفي الإستحقاقيْن كانت العقلانية هي الجامع المشترك وكان الحرص على الوطن هو القضية لدى الجميع، وكانت هنالك رؤية شبه موحَّدة وهي أن تونس قوية بإستقلاليتها وأقوى بعلاقة منفتحة مع دول العالم وأكثر قوة بخلو المجتمع التونسي من أحزاب وحركات وتيارات إما تعتمد السلاح ورقة قوة وإما ترتمي في أحضان الأغراب. كما أن تونس بالمواصفات التي نشير إليها وبتآلف قلوب الناشطين سياسياً وحزبياً علمانيين وقرآنيين وإحترام للرأي الذي يستهدف الصالح من السلوك وليس الطالح، كفيلة بجذْب عوائد لا حصر لها من الإستثمارات والسياحة وبذلك تطمئن قلوب النّاس ويتفاءل المواطن خيراً بمستقبل زاهر لأبنائه وأحفاده.
وثمة ملمح لافت في المسيرة الإنتخابية التونسية بشقيْها رئاسة الجمهورية بعد رئاسة البرلمان، وهي الحنين إلى الماضي الذي كانت فيه الدولة محترمة والحُكْم على درجة من الإحترام من دون أن يعني ذلك أنه لم تحدث شوائب وثغرات، لكن كان يتم علاجها بالحْسنى. وأما المعالجة بالأسلوب السيء فإنها عادت على معتمديها بالخسران.
كما أن الملمح اللافت يتعلق بأن الرئاستين، رئاسة الجمهورية بعد رئاسة البرلمان، باتتاً في عهدة قطبْين تجاوزا الثمانين من العمر وهذا في حدّ ذاته مدعاة إطمئنان، بمعنى أن رئيس البرلمان محمّد الناصر (رجل الـ 83 سنة) لن يبقى إلى أبد الآبدين رئيساً لهذه السلطة التشريعية، وأن رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي (رجل السابعة والثمانين) سيكتفي بوضع الحجر الأساس للجمهورية الثانية ثم يبتعد من دون الحاجة إلى ربيع ضده ولا ضد رئيس البرلمان، لأنهما أصلاً حماة الربيع.
يطول الحديث حول هذا الذي يحدث في الديار المغاربية والذي هو مدعاة للحزن في ليبيا ومدعاة للفرح في تونس. وما نتمناه للبنان شقيق تونس الفينيقية الجذور، هو أن يحزم أمره ويغادر العتمة إلى النور وهذا ما يفترض المرء بزوغ تباشيره في مضافة الرئيس نبيه برّي للحوار المتأخر كثيراً والذي بات على حدّ قول أبو مصطفى «أكثر من ضرورة». وفي هذا الإطار نفترض أيضاً أن الرئيس برّي لا بدّ وهو يجمع في داره مَن سبق ماضياً أن ألتقيا ومَن أوجبت الظروف «أن لا تلاقيا» بينهما إلى أن إقتحم المضيف العقدة المستعصية يستحضر كيف أن خادم الحرميْن الشريفيْن الملك عبد الله بن عبد العزيز الذي بات لقاء أبو مصطفى به «أكثر من ضرورة» أنهى بإستضافة أخوانه قادة دول الخليج أو مَن ينوب عن بعضهم في قصره، أزمة كادت تقوِّض دعائم مجلس التعاون لدول الخليج العربية وأنه بالحكمة والحنكة والترفع عن ألاعيب الذين يوغرون الصدور طوى صفحة إحتمال التقويض ليبدأ التدوين في صفحة المصالحة والوفاق.
كما لا بدّ يستحضر أمثولة التعقل التونسية، فضلاً عن انه بات لا بدّ من ترجيح كفة نبيه برّي رجل الدولة على كفة نبيه برّي رجل الطائفة. وبذلك يعوِّض لبنان المغلوب على أمره في العام الجديد ما يتواصل فقدانه عاماً بعد عام. عسى ولعل يأخذ الوعي طريقه إلى العقل اللبناني كما أخذ طريقه إلى الوعي التونسي.