IMLebanon

تونس بداية «الربيع العربي»… ونهايته!

 

كانت تونس بداية «الربيع العربي» ويبدو أنّها نهايته أيضاً. في أواخر العام 2010 انتفض الشعب التونسي على نظام زين العابدين بن علي. خرج الرئيس التونسي من البلد في مثل هذه الأيّام من العام 2011. غادر إلى المنفى، ربّما إلى غير رجعة، بعدما فضّل الهرب بجلده على الدخول في مواجهة مع ثورة شعبية حقيقية.

 

استطاعت هذه الثورة تحقيق الكثير نظرياً، لكنهّا لم تحقّق شيئاً في الواقع. هل وضع التونسيين حالياً أفضل مما كان عليه في عهد بن علي؟ الجواب لا كبيرة. وضعهم أسوأ بكثير. يمكن أن يكون ذلك عائداً إلى عاملين. أولهما غياب النضج لدى الطبقة السياسية التونسية ومسارعة الأخوان المسلمين منذ 2011 إلى محاولة خطف الثورة الشعبية عبر «حركة النهضة» والآخر غياب الأمن واعتقاد معظم الشباب التونسي أن هناك ثورة من أجل الثورة وأنّه كان كافياً، بالنسبة إلى هؤلاء الشبّان، أن يتخلصوا من بن علي ليصبح كلّ شيء في متناولهم.

 

صحيح أن تونس استطاعت تزويد نفسها بدستور عصري، وأن تدافع عن منجزات كثيرة تحققت في عهدي الحبيب بورقيبة وزين الدين بن علي، لكنّ الصحيح أيضاً أنّ البلد دخل مرحلة الفوضى التي تعبّر عنها الاضطرابات التي شهدها في الأسبوعين الأخيرين. تكشف هذه الاضطرابات التي تضع مستقبل تونس على كفّ عفريت أنّ لا وجود لقوى الأمن القادرة على ضبط النظام وحماية ممتلكات الناس العاديين.

 

لا يمكن بناء دولة من دون احترام للأمن. لا يمكن لأي اقتصاد أن يتطور وأن يخلق فرص عمل من دون الأمن والاستقرار ومن دون قضاء نزيه يستطيع بتّ الخلافات على وجه السرعة بما يؤمن الطمأنينة لكلّ من يريد الاستثمار في تونس. المؤسف أن «ثورة الياسمين» لم تستطع تحقيق شيء من ذلك. لم تستطع تحويل تونس إلى بلد آمن في محيط مضطرب تعبّر عنه الحروب الدائرة في ليبيا ونشوء تنظيمات إرهابية تستغلّ الفقر والبؤس وتجند شباناً على استعداد للموت من أجل أفكار بالية.

 

كلّ ما هناك أنّ البلد لم يعد آمناً وأن في استطاعة مجموعة من الشباب دخول أي مخزن، كما حصل مع فرع سوبر ماركت «كارفور» في إحدى ضواحي تونس العاصمة ونهب كلّ ما فيه. حصل قبل أيّام قليلة الشيء ذاته في حي التضامن الفقير حيث افتتح الرئيس الباجي القائد السبسي نادياً رياضياً. لم تمرّ ساعات حتّى دخل شبّان إلى النادي وأخذوا كلّ ما فيه، بما في ذلك الآلات الرياضية التي تبرّعت بها الدولة كي يتمكن شبّان في حيّ فقير من ممارسة الرياضة.

 

كانت تونس في عهد بن علي دولة بوليسية إلى حدّ كبير. تطوّرت اقتصادياً، لكنّها لم تتطوّر سياسياً، على الرغم من توسيع قاعدة الطبقة المتوسطة. زاد الوضع سوءاً ممارسات عائلة زوجته ليلى طرابلسي التي أرادت السيطرة على جزء من الاقتصاد التونسي وإدارته لحسابها. أساء ذلك كثيراً لزين العابدين بن علي الذي وقع في السنوات الأخيرة من حكمه تحت سلطة ما بات يعرف بـ«السيّدة الأولى» وإخوتها وأصهرتها.

 

لم يستطع الرئيس الذي اضطر إلى ترك البلد إثر اندلاع «ثورة الياسمين» من إقامة نظام ديموقراطي يمكن أن يكون متنفساً للغضب الشعبي الذي انفجر بمجرد إحراق شاب اسمه محمد البوعزيزي نفسه في ولاية بوزيد الواقعة في الريف التونسي. كان ذلك بداية «الربيع العربي» الذي انتشر كالنار في الهشيم. أطاح حسني مبارك وأطاح معمّر القذافي واطاح علي عبدالله صالح الذي اضطر إلى التخلّي عن السلطة في شباط (فبراير) 2012 قبل أن يقتل في كانون الأوّل (ديسمبر) 2017.

 

مقارنة مع كلّ الدول التي تأثرت بـ«الربيع العربي»، بقيت تونس استثناءً. ليبيا انتهت. اليمن انتهى، أقلّه في المدى المنظور. في مصر، هناك عودة لنظام حسني مبارك الذي تأسس في العام 1952عندما انقلب ضباط من الريف على النظام الملكي، ولكن بشخصيات عسكرية ذات أسماء مختلفة تقدّمها جمال عبد الناصر بكلّ تخلّفه على كلّ الصعد. أمّا في سوريا، فما يحدث، منذ آذار (مارس) 2011، لا يعتبر نهاية نظام طائفي وأقلّوي مفلس اصلاً فحسب، بل عملية تفتيت مستمرّة وممنهجة لمنطقة بكاملها. ليس إبقاء الروس والإيرانيين لبشّار الأسد في دمشق سوى وصفة للتأكد من أن سوريا ستتفتت.

 

الى ما قبل أسابيع، كان هناك اعتقاد في أوساط كثيرة أن تونس تجربة ناجحة. كان هناك من يريد النظر إلى النصف المليء من الكأس وتفادي الخوض في السلبيات، بما في ذلك العمليات الإرهابية التي تعرّض لها البلد في السنوات القليلة الماضية والتي عطلت قطاعاً مهمّا هو السياحة. كانت تونس في أيّام بن علي تستقبل ما لا يقلّ عن سبعة ملايين سائح سنوياً. صار عدد السيّاح الذين يقصدونها هذه الأيّام محدوداً. فقد عشرات آلاف التونسيين فرص عمل وفّرها لهم الاستقرار الأمني الذي كان سائداً. إضافة إلى الصناعات التحويلية والزراعة، كانت السياحة أحد أعمدة الاقتصاد التونسي.

 

عاد «الربيع العربي» الآن إلى نقطة البداية، أي إلى تونس. ما تشهده تونس حالياً هو طيّ لصفحة هذا الربيع الذي لم يكن سوى خريف. كان طبيعياً أن لا يكون هناك مستقبل سياسي لا لزين العابدين بن علي ولا لحسني مبارك ولا لمعمّر القذافي ولا لعلي عبدالله صالح ولا لبشّار الأسد. ما لم يكن طبيعياً أن تنتهي بلدان مع نهاية هؤلاء. إذا وضعنا مصر جانباً، لأسباب خاصة بها مرتبطة بتماسك المؤسسة العسكرية، ما مصير ليبيا واليمن وسوريا؟

 

هناك بلدان انتهت مع نهاية «الربيع العربي». تبدو تونس بين هذه البلدان، للأسف الشديد، في حال لم يحصل ما يعيد إليها الحدّ الأدنى من الاستقرار الأمني في أسرع ما يمكن. هذا ما يفترض أن تعمل من اجله القوى السياسية في تونس التي تحتاج اليوم أكثر من أيّ وقت إلى شخصيات سياسية قادرة على لعب دور على صعيد ضبط الوضع الأمني وقادرة في الوقت ذاته على امتلاك رؤية سياسية واقتصادية لمصلحة البلد بدل الاكتفاء بالكلام عن العودة إلى المبادئ التي سار عليها بورقيبة.

 

يبقى بورقيبة شخصية مهمّة وتبقى المبادئ التي نادى بها صالحة لكلّ عصر. لكن تونس التي زاد انتشار الفقر فيها منذ «ثورة الياسمين» تحتاج إلى ما هو أكثر بكثير من العودة إلى ايّام بورقيبة. انّها تحتاج أوّل ما تحتاج إلى وضع حدّ للانفلات قبل أيّ شيء آخر. هل هناك طبقة سياسية تعي أهمّية ذلك، أم أن الجميع سيسقط في الفخ الذي نصبه لهم الأخوان المسلمون الذين يعتقدون أن فشل الباحي قائد السبسي والحكومة التي يرئسها يوسف الشاهد سيعيد لهم الاعتبار وسيعيدهم إلى السلطة عاجلاً أم آجلاً!