- ليس المسار السلمي الديموقراطي الذي تنخرط فيه تونس درساً بليغاً لإسلاميّي العالم العربي الذين دخلوا في مسار عنفي داخل دولهم ومجتمعاتهم من سوريا إلى لبنان إلى العراق ولا سيما إلى مصر وليبيا بل هو أيضاً درسٌ نرجو أن يكون بليغاً لكل علمانيّي المشرق خصوصا الآسيوي “المسحوقين” سياسياً تحت أقدام التيارات المختلفة للإسلام السياسي.
لم نكتشف قوة علمانيّي تونس اليوم بل ظهرت قوّتُهم النضالية اجتماعيا وسياسيا منذ اللحظة الأولى لسقوط الجنرال بن علي في 14 جانفييه (يناير – كانون الثاني) 2011.
رفض العلمانيّون التوانسة لا سيما الشباب والنساء التسليم بأن نجاح الثورة هو حصيلة دور حركة النهضة الإسلامية وحدها. صحيح أن العديد من قوى النظام السابق دعم المعارضة لـ”النهضة”، وهذا يحصل في كل البلدان التي تشهد تغييرا راديكاليا من القديم إلى الجديد، لكن الديناميكيّة الأساسية للاعتراض على سلطة الإسلاميّين كانت لتلك “الكتلة الاجتماعية” الواسعة من الطبقة الوسطى التي تبلورت وتكرّست بحصيلة الإصلاحات العلمانية البورقيبية المنفتحة على المرأة والقيم الغربية. كان واضحا في الشارع والمنتديات النخبوية أن هذه الكتلة كبيرة ومتجذّرة وشجاعة بحيث لا يستطيع الإسلاميون الأصوليون حكم البلد بتجاهلها. ليس فقط تلك القلة من جماعة النظام السابق التي كانت تتحرك في السر ضد الإسلاميين بل الأهم هم الكثيرون من العلمانيين الذين دخلوا سجون نظام بن علي وقبل ذلك سجون الزعيم بورقيبة الذي أبقى من تقدّميته المنحى الاجتماعي ملغيا بسرعة الحياة الديموقراطية خلال عهده ومدخِلاً تونس في نظام علماني بوليسي ورثه – دون الكاريزما البورقيبية – الجنرال زين العابدين بن علي حتى إسقاطه.
كانت قوة هذه “الكتلة الاجتماعية البورقيبية” وتصميمها على الدفاع عن قيمها قد ظهرا منذ الأيام الأولى للثورة وساهما في إسقاط النظام السابق. أتذكًّر أيَّ غضبٍ معلن كان يعبِّر عنه مثقّفون تونسيّون من رجعية وتسلط الإسلاميين حين التقيتُ بعضهم خلال ندوة دُعيت إليها في تونس في العام الثاني للثورة. كان غضباً سمحتُ لنفسي أن أعتبره يومها دلالة على استحالة حكم الإسلاميين السهل والوحيد لتونس. كانت فيه قوة نضالية وثقة سياسية وثقافية بالنفس يبديهما المثقفون التوانسة سرعان ما ظهرت دلالاتهما والتراكم الاجتماعي الشعبي الذي تعكسانه في اعتراف الشيخ راشد الغنوشي المبكر قبل حوالى سنتين أن تونس منقسمة إلى نصفين بين إسلاميين وعلمانيّين ولا يمكن لأي منهما تجاهل الآخر. وجاء إقرار الدستور التونسي الجديد، الذي يُعتبَر سابقة متقدّمة في التاريخ الدستوري العربي الحديث، لكي يوضح القوة السياسية والفكرية التي لا يمكن تلافيها للعلمانيين والعلمانيّات وهن من الأكثر شجاعة وحداثة بين نساء العالم العربي.
كرّست “الكتلة العلمانية” انتصارها في الانتخابات الأخيرة عبر الفوز الذي حقّقه حزب “نداء تونس”، “الحزب الجديد المليء بالقدماء” حسب تعبير الناطق الرسمي باسمه أمس الأول على شاشة “العربية”. غير أن النتيجة لا تقتصر على ذلك إذا أحصينا الكتل الصغيرة الحزبية التي حصلت على مقاعد هنا وهناك وبينها 14 مقعدا لـ”الجبهة الشعبية”. هذا يعني أن الكتلة العلمانية لم تأتِ فقط بالمرتبة الأولى تليها كتلة إسلاميي “النهضة” بل هي أيضاً حقّقت بتشكيلاتها المختلفة فوزا أوسع قد ينعكس في حكومة إئتلافية إذا تجاوزت حساسيًّاتها الفئويّة.
المهم فازت الكتلة العلمانية. فشكرا لمناضليها ومثقّفيها وقادتها والأهم لنسائها وشبابها الذين يلعبون دوراً حاسما في تأكيد الهوية الرافضة لرجعية الأصوليين أو بعض تيارات “النهضة” المتصلّبة والتي لم تتجاوب مع الموقف المرن والديموقراطي لزعيمها الشيخ راشد الغنوشي.
لا أعرف إذا كان هذا الانتصار سيجري توظيفه بذكاء وفعالية في المشرق العربي من قبل علمانييه الديموقراطيّين (لأنه لا يجب أن ننسى وجود العلمانيّين غير الديموقراطيّين). لنقف سريعا عند بعض بلدان المشرق:
علمانيو المعارضة السورية نتيجة ضراوة انخراطهم في الحرب الأهلية وهزالهم الميداني الذي جعلهم أسرى السياسات الغربية دون قدرة على التأثير فيها، هؤلاء من الصعب توقّع مقدرتهم على الاستفادة من الانتصار العلماني التونسي لا سيما أن حجم ارتباطهم بتحالفات يسيطر عليها الإسلاميّون لم يعد يسمح لهم بتشكيل محور معارض جدي ضد النظام ولكنْ قادرٌ على التفاوض معه باسم أولوية وطنية سورية لم يعد سهلاً تحديدها في ظل التدمير الجاري بين عنف الأصوليين وعنف النظام كما في ظل “لعبة الأمم” الغربية. ثم علينا أن لا ننسى، في معرض التحسّر، أن معظم هؤلاء المعارضين العلمانيين لا يقيمون على الأرض السورية خلافا للعلمانيين التوانسة والمصريين.
لبنان “العلماني” أبعد ما يكون عن الاستفادة من الانتصار التونسي بسبب قوة نظامه الطائفي الشعبية من جهة، وبسبب انخراط نخبه العلمانية بمعظمها في أجهزة النظام ومعارضة جزء أساسي منها بل الأساسي لتغيير هذا النظام من جهةٍ أخرى. ولنتذكّر أن لبنان هو البلد الوحيد في السنوات العشر الأخيرة الذي شهد حركةً شعبية واسعة لإسقاط نظام آخر هو النظام السوري ولكنْ ليس لإسقاط النظام اللبناني. مع ذلك لا يخجل بعض اللبنانيين من القول أن “ثورة الأرز” ساهمت في إطلاق “الربيع العربي” الذي حمل معنىً واحداً ووحيداً هو إسقاط النظام القائم في كل بلد على يد أبنائه وليس تغيير نظام آخر في بلد آخر!!
نأتي إلى “المحروسة”. ففي مصر يمكن للانتصار التونسي أن يكون له مفعول خاص وبطريقة خاصة. في مصر أصبح “الإخوان المسلمون” لا خارج النظام فقط بل خارج “الإجماع الوطني” أيضاً ولهذا يمكن للسلطة المصرية بقيادة المشير عبد الفتاح السيسي أن تستفيد منه (أي الانتصار العلماني التونسي) لكي تغيّر بعض سياساتها المتشددة في مواجهة الأنشطة المدنية المعارضة والتي اضطرت للجوء إليها تحت وطأة الحرب الإرهابية التي تُشَنّ على الدولة والجيش والمجتمع. فالتحوّل في تونس يجب أن يمنح السلطة المصرية ثقةً أكبر بقدرة التيارات المدنية العلمانية على مواجهة الإسلام الأصولي ومن المفترَض أن يدفعها لتوسيع تحالفاتها ورهاناتها في هذا الاتجاه. وقد أظهرت النخبة المدنيّة المصرية طاقة على المواجهة كانت أحد مرتكزات ثورة 23 يونيو.
ليس الإسلام المتطرّف قدَراً على حياتنا العامة والخاصة. وما تقوله لنا “الكتلة البورقيبيّة” التونسية أن بالإمكان تحجيمه وهزمه سلميا في الثقافة وفي صناديق الاقتراع.