Site icon IMLebanon

عن الترابي وشراكة حكمه مع البشير

عندما كان الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك ينتظر نبأ الانقلاب الذي أعدته استخباراته داخل الجيش السوداني، استغل العميد عمر حسن البشير حال الاستنفار ليتفق مع الدكتور حسن الترابي على القيام بانقلاب مشترك تم تنفيذه في 30 حزيران (يونيو) 1989.

ومع أن البشير كان واثقاً من النجاح بسبب النفور المستشري بين زعماء الأحزاب، إلا أنه كان في حاجة إلى غطاء شعبي وفره له شريكه حسن الترابي، منظّر ثورة الإنقاذ الوطني في السودان.

ولقد ظهر منحى التآمر على الترابي منذ أعلن التلفزيون السوداني استيلاء بعض الضباط على الحكم بقيادة البشير. ذلك أنه نصحه باعتقال كل الزعماء وزجهم في السجون بحيث تضيع هوية الانقلابيين، الأمر الذي يساعد الحكم الجديد في نيل التأييد الواسع. وهكذا أمضى الترابي فترة التضليل في سجن انفرادي، مع خدمة ممتازة لا تليق إلا بنزلاء فنادق الخمس نجوم!

ومع أن هذه «الخدعة» المتفق عليها ساعدت البشير في تثبيت موقعه داخل وحدات الجيش، إلا أنها في الوقت ذاته أقنعته بأنه قادر على الاستئثار بالحكم من دون مشاركة الترابي. وهكذا حرص طوال 25 سنة على استبعاده عن السلطة خوفاً من التآمر للإطاحة به. علماً أن الترابي اعترف أكثر من مرة بأنه أخطأ في اعتماده على قوة الجيش بدلاً من الاستقواء بقوة الشعب. وفي هذا قال لأحد المحاورين: «أخذنا درساً بليغاً من الانقلابات العسكرية. فالذي دبّرها انقلبت عليه هو».

ويُستنتَج من هذه العبارة أن مرارة الخطأ التكتيكي ظلت مسيطرة على نشاطاته حتى آخر يوم من عمره. وقد ظهرت أعراضها السلبية بوضوح كلما تحدث عن الجيوش في أي بلد.

وأكبر مَثل على ذلك الهاجس دعوته للرئيس بشار الأسد إلى ضرورة الرحيل كي يسلم من الانتقام. كذلك نصحه بدعم فكرة حكومة انتقالية تُجري انتخابات، وتضع دستوراً حديثاً ينتهي بحكم الشعب لا بحكم العسكر.

كذلك انتقد الترابي ثورة ايران، لأنها في نظره خرجت عن خطها السابق. وأعرب عن خيبة أمله، كونه تناسى طائفته وزار الخميني في باريس وطهران، معرباً عن إعجابه الشديد بتلك الظاهرة الفريدة. ولكنه سرعان ما اكتشف أن ثورة ايران الإسلامية انغلقت في طائفيتها، وتدخلت عسكرياً لمنع سقوط نظام بشار الأسد.

الملاحظ في هذا السياق أن الترابي شارك عملياً في السلطة مع غالبية الحكومات السابقة. ولكن مشاركته في انقلاب البشير أخرجته من السلطة، الأمر الذي دفعه إلى التلهي بإصدار كتب تثير شهية المعارضة.

ويُستدَل من قائمة تلك المؤلفات أن الترابي كان حريصاً على نشر كتاب جديد مطلع كل سنة تقريباً، وهذه أهمها: قضايا الوحدة والحرية (1980)، تجديد أصول الفقه (1981)، تجديد الفكر الإسلامي (1982)، الأشكال الناظمة لدولة إسلامية معاصرة (1983)، تجديد الدين (1984)، منهجية التشريع (1987)، المصطلحات السياسية في الإسلام (2000). إضافة إلى هذه المجموعة نشر الترابي سلسلة كتب تتناول قضايا مهمة في حياة الناس، بينها: الدين والفن، المرأة بين تعاليم الدين وتقاليد المجتمع، الإيمان وأثره في الحياة، الصلاة عماد الدين.

يُجمِع أهل السودان على الاعتراف بأن الخلفية العلمية والثقافية التي تسلح بها الترابي في بيت والده، ومن ثم في الجامعات المحلية والخارجية… هذه الخلفية هي التي صنعت منه تلك الشخصية الفريدة والمميزة.

ولِد حسن الترابي سنة 1932 في مدينة «كسلا» شرقي السودان، وسط أسرة متدينة وميسورة الحال، تنتمي إلى قبيلة البديرية. توفيت والدته وهو صغير، الأمر الذي شجع والده القاضي على الاهتمام بتنشئته والاعتناء بدراساته الدينية. وقد عُرِف ذلك القاضي النزيه بأنه شيخ طريقة صوفية. لذلك ألزم نجله بأهمية حفظ القرآن الكريم، ودرس علوم اللغة العربية والشريعة.

بعد دراسة الحقوق في جامعة الخرطوم، سافر الترابي إلى بريطانيا ليلتحق بجامعة اوكسفورد (1957) حيث حصل على شهادة الماجستير. وفي سنة 1964 التحق بجامعة السوربون في باريس، ونال شهادة دكتوراه في المحاماة. وكان يُتقن أربع لغات هي العربية والانكليزية والفرنسية والألمانية. وفور عودته إلى السودان، عمِل الترابي أستاذاً في جامعة الخرطوم، ومن ثم عُيِّن عميداً لكلية الحقوق.

ويبدو أن طموحاته السياسية خطفته من محيط الجامعة والتدريس، لتضعه وسط أجواء الدولة في مرحلة بالغة الحساسية. وبسبب اختصاصه، اختير وزيراً للعدل. وفي سنة 1988 عُيِّن وزيراً للخارجية، وبعدها بسبع سنوات اختيرَ رئيساً للبرلمان.

أما بالنسبة لنشاطه الحزبي، فإن حسن الترابي نذر حياته لنشر أفكار الحركة الإسلامية، الأمر الذي فرض عليه إتقان فن السكن في السجون. وقد دشن نشاطاته بالدخول في عضوية «جبهة الميثاق الإسلامية». وهي تمثل أول حزب أسسته الحركة الإسلامية السودانية التي تحمل فكر «الإخوان المسلمين». وبعد مضي خمس سنوات، أصبح لجبهة الميثاق الإسلامية أهمية شعبية. لذلك تولى الترابي أمانتها العامة سنة 1964.

بعد الانقلاب الذي قام به جعفر النميري، تم اعتقال أعضاء جبهة الميثاق الإسلامية، ومن بينهم الترابي الذي أمضى في السجن سبع سنوات. وأطلِق سراحه بعد مصالحة الحركة الإسلامية مع النميري سنة 1977.

وبسبب تنامي المد الإسلامي، وخوف النميري من تقويض دعائم حكمه، فرض قوانين الشريعة الإسلامية سنة 1983، معلناً تحوله إلى رجل متدين. ولكن الشعب لم يقتنع بهذا التحول، خصوصاً أن حكاية صفقة «الفلاشا» إلى اسرائيل أحدثت ضجة في العالم العربي. وهكذا اضطر النميري إلى حلّ البرلمان لمواجهة تظاهرات يومية لم تلبث أن تحولت إلى ثورة شعبية أدت إلى إسقاطه سنة 1985.

عقب هذه المرحلة المضطربة، أسس الترابي «الجبهة الإسلامية القومية». وفي حزيران (يونيو) 1989، تحالف مع البشير للقيام بانقلاب عسكري ضد حكومة الصادق المهدي. علماً أنه متزوج من شقيقته وصال المهدي.

يوصَف الترابي بأنه شخصية غامضة أثيرت حولها أحكام مختلفة، فالبعض يرى فيه سياسياً بارعاً في تحريك الإعلام، وخطيباً مؤثراً في الجماهير. بينما يرى فيه خصومه شخصاً مخادعاً، له طموحات لا تحدّ وخبرة في صنع الدسائس والمؤامرات، إضافة إلى نهمٍ للسلطة. ويتهمه هذا الفريق بإصدار فتاوى تخرج عن إجماع أهل السنّة.

وكما اختلف أهل السودان على تقويم شخصية الترابي في حياته… كذلك اختلفوا على تعريف إرثه السياسي والثقافي بعد موته. ومنهم من رأى فيه مثالاً للإنسان الدؤوب على العمل، كونه توفي وهو يعمل في مكتبه في دار الحزب صباح السبت الماضي، في حين نعته «حركة جيش تحرير السودان» بقيادة عبدالواحد محمد نور، ولكنها انتقدت مشروعه لأنه، في نظرها، المتهم الأول في دفع البلاد إلى حافة الهاوية، وإلى ما نراه من تمزق واحتراب.

في هذا الوقت العصيب، توقعت عائلة الترابي أن يكون الرئيس عمر البشير في مقدمة الجنازة. ولكنهم فوجئوا بتغيبه، وإنابة بكري حسن صالح بتمثيله كونه مغادراً إلى جاكارتا. ويبدو أن هذا العذر لم يقنع الشعب السوداني، بدليل أن الدكتور علي الحاج عاد من منفاه الاختياري في ألمانيا بعد غياب 16 سنة. كل هذا كي يثبت احترامه لعائلة الفقيد وللقوى التي كان يمثلها. ويتردد في الخرطوم أن البشير وجد في مؤتمر جاكارتا فرصة لعدم حضور جنازة شعبية قد يتعرض فيها للإساءة والإهانة من قِبَل أنصار الترابي.

يقول أدباء السودان ممن رافقوا مسيرة الترابي أنه تأثر جداً بالثورة المهدية التي أطلقها محمد أحمد بن السيد عبدالله في صيف 1844. وقد بسط سلطاته فوق رقعة واسعة تمتد من البحر الأحمر حتى وسط افريقيا. وزحف من أم درمان إلى الخرطوم فاحتلها، ثم أعلن «نفسه» مهدياً لحكومة دينية.

وكان السودان في حينه خاضعاً لسلطة مصر المحكومة من قِبَل الامبراطورية العثمانية. ولما حاصر أنصار المهدي الخرطوم تجرأوا على اغتيال الجنرال الانكليزي غوردون. وقد جزوا رقبته وحملوا رأسه على حربة، بهدف تطمين السكان السذج الذين كان يخيفهم الأجنبي المحتل. وقد أدت هذه الحادثة إلى إعادة احتلال السودان بقيادة الجنرال كتشنر.

ومن سيرة المهدي استقى الترابي فكرة الثورة الشعبية التي كان يخطط لها. ولما سُئِل، قبل عدة سنوات، عن رأيه بمصالحة الرئيس البشير، رفض الفكرة، مطالباً برحيله قبل اعتقاله وتسليمه إلى المحكمة الجنائية.

واستطرد في شرح جوابه ليقول: يجب أن ينظر البشير إلى مصير النميري وأفراد حزبه، وإلى «الربيع العربي» وإعصاره المدمِّر ضد حسني مبارك وعلي عبدالله صالح والعقيد معمر القذافي، ومختلف الزعامات التي حكمت بالترهيب والترغيب.

حقيقة الأمر، أن السودان المشرّعة حدوده على سبع دول معادية، استثار أحقاد العرب والعجم باستضافة كارلوس الإرهابي وأسامة بن لادن. وبررت حكومة البشير هذا التجاوز بالحاجة إلى استفزاز دول النفط من جهة، وابتزاز بن لادن الذي موَّل بناء إحدى الطرقات الكبرى، من جهة أخرى. إضافة إلى هذه الارتكابات، فقد وُظِّـفـَت «بورت سودان» لنقل الصواريخ الايرانية إلى «حماس» في غزة.

وعلى الرغم من حصول ارتكابات داخلية وتجاوزات خارجية، حرصت واشنطن على إرسال أكبر وأرفع وفد اميركي، برئاسة السفير دونالد بوث، إلى الخرطوم. كل هذا بغرض التفاوض حول رفع السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب.

والثمن، كما يطالب به البشير، هو مشاركة جنوب السودان بخيرات النفط، وإعادة التوطين والتنمية في «دارفور» ضحية أعمال «الجنجويد»، ميليشيا الدولة في تلك المقاطعة.

وربما يكون نموذج البشير الذي حكم السودان منذ سنة 1989، بالترهيب والترغيب، هو أسلم من حكم شريكه، الذي حاول أن يلعب دور المهدي المنتظر!