كتب د. علي معطي في اللواء:
1- أسباب الأزمة الاقتصادية:
بعد إعلان الحرب العالمية الأولى بأشهر قليلة، ضربت أساطيل الحلفاء (بريطانيا وفرنسا وروسيا) حصاراً على موانئ سوريا ولبنان، فكان الأسطول الفرنسي يقوم بمراقبة السواحل السورية واللبنانية، بمساعدة الطراد الروسي «ساكولا»، الذي أُطلِقَ في 17 كانون الأوّل عام 1914 قنابله على باخرتين صغيرتين كانتا متوقفتين في مرفأ بيروت، فأحدث ذلك ذُعراً بين سكان المدينة الذين اضطروا لمغادرتها إلى الداخل(1). وفي 24 نيسان عام 1915 أقدمت الدوارع التابع للاسطول الفرنسي على قصف مستودعات البترول في جونيه وأنفه وشكا(2).
لم يكتف الحلفاء بمنع وصول البواخر الحربية والتجارية إلى موانئ بلاد الشام، بل منعوا أيضاً وصول البواخر التي كانت تحمل المساعدات من الخارج إلى سكان تلك البلاد.
فبريطانيا، التي كانت تحتل مصر في تلك الفترة، منعت سلطاتها الباخرتين المشحونتين بالمواد الغذائية والملابس، والمرسلتين من المهاجرين اللبنانيين والسوريين في أميركا إلى الفقراء في لبنان وسوريا، من متابعة سفرهما إلى بيروت، واحتجزتهما في ميناء الاسكندرية.
ولم ينفع تدخل الحكومة العثمانية في الأمر، والاتصال بالسفير الأميركي في اسطنبول ليتدخل ويفك أسر الباخرتين(3).
وأيضاً منعت السلطات البريطانية من مصر الجالية اللبنانية والسورية هناك، من إرسال المساعدات التي جمعتها إلى أبناء وطنهم في بيروت ودمشق(4).
وعندما استنجد الأمير شكيب أرسلان بقداسة البابا لإغاثة أهالي سوريا ولبنان، كتب الحبر الأعظم ما يلي: «إنّ الحبر الأعظم لم ينسَ ولن ينسى مسيحيي سوريا، وإنّه قد سعى مراراً لإغاثتهم، وبأخذ الرخصة من الحلفاء لأجل إرسال الأرزاق التي تخفّف من أزمتهم، ولكن إنكلترا حالت دون إجراء رغبته هذه، ولذلك قلب قداسته مجروح من عمل إنكلترا هذا، وسيعلم المسيحيون في الشرق في ما بعد أنّ الحبر الأعظم لم يهملهم(5).
2- السلطات العثمانية تُساعد الأهالي:
ومع استنجاد الأمير، طلب وزير الحربية العثماني أنور باشا من السفير البابوي في اسطنبول، أن يقوم البابا بمساعيه الحميدة لإيصال المواد الغذائية إلى سكان بلاد الشام، وأنّ الحكومة التركية تتعهد بدفع ثمنها وتترك أمر توزيعها إلى الرؤساء الروحيين في تلك البلاد، لكن جهود البابا والوزير باءت بالفشل.
أما في داخل سوريا ولبنان، فقد شكّلت السلطات العثمانية، خلال الحرب، لجاناً مؤقتة، كانت مهمتها تنظيم عملية البيع والشراء، وتوزيع المواد الغذائية على جميع السكان بشكل عام، وعلى الفقراء والمحتاجين بشكل خاص(6).
كما وزّعت هذه السلطات على الهيئات الدينية والمستشفيات الحكومية والخاصة، كميات من المواد الغذائية، تكفي لسنة كاملة، على أن تدفع هذه الهيئات نصف ثمنها حسب السعر الذي يدفعه الجيش وتقدّم النصف الآخر مجاناً(7).
وكذلك منحت المؤسّسات المارونية الخيرية منها والاجتماعية، ثلاثمائة ألف كيلو من الحبوب دون مقابل، وقد تسلّمت البطريركية المارونية هذه الكمية في تموز عام 1917(8).
وفي تلك الفترة أيضاً، أنشأ المتصرّف علي منيف شركة بإسم «شركة القمح»، وعيّن على إدارتها الطبيب نجيب أصفر، وجعل مركزها في بعبدا بالقرب من سراي الحكومة، وأنشأ لها مستودعات في معظم أنحاء الجبل، كان أهمّها وأكبرها مستودع عاليه ومستودع الحدث لوقوعهما على خط القطار الحديدي بين بيروت ودمشق. كانت وظيفة هذه الشركة بيع القمح للأهالي في لبنان بأسعار زهيدة لا تتعدّى الستة قروش للكيلو الواحد، وتقديم كيلو واحد مجاناً لكل عائلة مؤلفة من خمسة أشخاص(9).
3- السلطات العثمانية تفتح ملاجئ ومشاغل:
وإلى جانب هذه المساعدات والخدمات، فإنّ السلطات العثمانية قد فتحت في بيروت أربعة ملاجئ لإيواء الأطفال المشرّدين في الشوارع، وحوّلت مدرسة الآباء العازاريين في عينطورة، ودير الآباء اليسوعيين في غزير، ودير مار انطونيوس خشبو غزير، إلى ملاجئ لأولاد اللبنانيين الفقراء، وسلّمت إدارتها إلى القيمين عليها من رجال دين وأساتذة(10).
وفي هذه الملاجئ كانت السلطات العثمانية تجمع الأولاد الجائعين من الطرقات، أو من بيوت الفقراء، وتقدّم لهم الطعام، وتهتم بنظافتهم وصحتهم، وتعالج المرضى، وتعلّم القراءة والكتابة للأميين منهم.
ومع هذه الملاجئ فتحت السلطات العثمانية مشغلين في بيروت لتعليم النساء والفتيات فيهما مختلف الاشغال اليدوية، مع تأمين الطعام لهن ومساعدات عينية ورواتب رمزية لمَنْ تتقن العمل منهن، كان أحدهما في محلة برج أبي حيدر في المبنى الذي كان تابعاً قبل الحرب للمدرسة العثمانية، والذي خصصت كلّ غرفة فيه لنوع من أنواع العمل: فهذه للخياطة، وأخرى للتطريز، وثالثة لحياكة الصوف، ورابعة لحياكة السجاد، وخامسة للرسم والتحضير.. وهكذا.
كان يشرف على هذا المشغل، الذي ضمّ أكثر من ألف امرأة وفتاة، معلمون ومعلمات من ذوي الخبرة والمهارة(11).
وفي آذار عام 1916، أنشأ والي بيروت عزمي بك «مؤسّسة الأعمال اليدوية»، التي كانت تحوي حوالى 12 آلة وتدار بواسطة اليد، وذلك لتأمين العمل لعدد كبير من الرجال والنساء(12).
كما أسّس هذا الوالي في 23 تموز 1917 نادياً للفتيات المسلمات، كان مركزه في منزل بشارة الخوري، خلف مدرسة البطريركية في بيروت، وعيّن له معلمة للغة العربية لمَنْ ترغب من الأعضاء، وأخرى للفرنسية، وثالثة لتعليم العزف على البيانو. وبعد فترة وجيزة ألحق النادي مدرسة لتعليم أولاد اللبنانيين من الجنسين، الذين تأثّروا بمصائب الحرب ونتائجها. كان يُشرِف على إدارتها محمّد عمر منيمنة، وتتولّى التعليم فيها مدرّسات لقاء رواتب لهن، أمّا بعض عضوات النادي فكن يشرفن على العمل يومياً، ويحضّرن وجبة الغداء لجميع الطلاب والطالبات(13).
هذا ما فعله الأتراك في بلادنا خلال الحرب، وما قدّموه من مساعدات للأهالي، مع أنّ الحرب كانت على أشدّها، والدولة العثمانية على شفير الانهيار والتفكك. فأروني أيها النّاس ماذا فعل الفرنسيون والإنكليز في بلادنا، بعد أن انتهت الحرب وانتصروا. لقد احتلوا هذه البلاد وقسّموها إلى مناطق نفوذ، ونهبوا خيراتها، وأذّلوا النّاس فيها، وهجّروا الأشراف من زعمائها، وشرّدوا شعب فلسطين في الآفاق، وأسكنوا شذّاذ الآفاق من اليهود في بيوتهم ومدنهم وقراهم. ثم أروني ماذا فعل حكّام سوريا ولبنان منذ عام 1943 حتى الآن. لقد أدّت سياستهم في لبنان إلى قيام الثورات والحروب بين طوائفه وأحزابه وإلى إفقار شعبه وسرقة أمواله. كما أدّت سياسة حكّام سوريا إلى تدمير البلاد وتشريد الشعب وقتل الأطفال والشيوخ.