لا شك في أنّ الانسحاب الأميركي من الاتّفاق النووي مع إيران سيعزّز الرهان التركي على دورٍ أوسع في الشرق الأوسط.
ذلك أنّ عودة مناخ المواجهة بين واشنطن وطهران سيُلزم الولايات المتحدة الاميركية برسم معادلة جديدة في المنطقة تفترض وجودَ قوى إقليمية مؤثرة قادرة على التوازن مع إيران، وتبقي تركيا في طليعة هذه القوى، التي بدورها وبعدما أيقنت أنّ حلم الانضمام الى الاتّحاد الاوروبي لن يتحقّق آثرت منذ مدة بعيدة وتحت قيادة أردوغان الانكفاء عن طموحها غرباً والتركيز على مدّ نفوذها جنوباً ناحية الشرق الأوسط.
اصطدم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بإسرائيل وعلى أساس مناصرة الفلسطينيين محاوِلاً تكريس بلاده راعية مباشرة للقضية الفلسطينية، وفي الوقت نفسه عمل على تقديم تركيا قوة إقليمية قادرة على الوقوف في وجه التمدّد الإيراني غرباً للوصول الى شاطئ البحر الابيض المتوسط، ولكن من دون التصادم المباشر معها.
ومع اندلاع الحرب في سوريا شكّلت تركيا البوابة الواسعة للمجموعات المعارِضة للنظام السوري الذي كان يحظى بالدعم الإيراني المفتوح والشامل. لكن في ظلّ تطوّرَ الحرب وذهاب الأمور في اتّجاه إعادة ضبط الساحة وتطهيرها من المجموعات الإرهابية، وجدت تركيا نفسَها ملزمة بالتراجع الى الوراء، خصوصاً وأنّ أيَّ تقدّمٍ لها كان يعرّضها لمواجهة مع روسيا، وهو ما حصل وألزم تركيا بحساباتٍ أكثر واقعية.
وما زاد من واقعية أنقرة اعتماد واشنطن خيار دعم الأكراد وتبنّيهم في مواجهة «داعش». وفي العام 2014 باشرت واشنطن إنزال الأسلحة الى «وحدات حماية الشعب الكردي» عن طريق الجوّ. وهذه الخطوة أقلقت تركيا وجعلتها تعمل على تعديل سياستها.
وبعد الاصطدام الجوّي بين تركيا وروسيا بدأ العمل بين البلدين على رؤيا موحّدة تستند الى تقاطع المصالح بينهما ضد واشنطن التي أعلنت دعمها لقوة حدودية في سوريا مؤلّفة من ثلاثين ألف رجل بقيادة «وحدات حماية الشعب الكردي». يومَها استنتجت أنقرة أنّ علاقة واشنطن مع الأكراد ليست أبداً علاقة موقتة لمرحلة انتقالية، فاندفعت في اتّجاه موسكو.
وفي المقابل منحت روسيا الجيش التركي الضوء الأخضر للبدء بعملية «غصن الزيتون» في عفرين التي تعتبرها القيادة التركية بمثابة نجاح لها كونها كرّستها مجدّداً طرفاً فاعلاً في سوريا بعد الخسارة التي تلقّتها في حلب.
ووفق بعض المعلومات الديبلوماسية فإنّ القوات التركية تبني مكاتب بريد وتعليم العاملين فيها لغتهم الأم في المدارس السورية، ما يعني التمهيد للبقاء فترة طويلة.
وصحيح أنّ روسيا سمحت لتركيا بالدخول الى «منبج» لحسابات تتعلق بالتقاط أوراق من درب واشنطن، لكنها تدرك في نهاية الامر أنّ ثمّة تعارض ما بين المصالح التركية والمصالح الروسية في شمال سوريا. لذلك لمّحت موسكو مرات عدة الى ضرورة انسحاب تركيا من شمال سوريا.
كذلك فإنّ إيران أرسلت اشارات الاعتراض منذ لحظة اجتياز أوّل جندي تركي للحدود التركية ـ السورية. فالوجود العسكري التركي، ولو أزعج واشنطن في المرحلة الحالية لناحية حرب على الأكراد، إلّا أنه سيشكّل في المدى المنظور عاملاً مناقضاً للمصالح الإيرانية.
ردّ الفعل التركي ربما تجلّى بتأييد القصف الأميركي ـ الفرنسي ـ البريطاني لمواقع في سوريا عقب اتّهام النظام باستخدام السلاح الكيماوي. لكنّ التأييدَ التركي اقتصر على الموقف حيث كان معبّراً عدم سماح السلطات التركية باستخدام قاعدة انجرليك في إطار عمليات القصف.
ووفق ذلك، بدا أنّ تركيا تحاول التوفيق بين العمل بمفردها أو العمل ضمن تحالف روسي ـ إيراني ـ تركي. لكنّ هذه الصورة الملبّدة والمتداخلة تدفع تركيا الى التروّي والتريّث وعدم الإقدام على توسيع دائرة عملياتها العسكرية غرباً في اتّجاه منبج كما هدّدت مراراً. لذلك هي تأمل في أن تساهم التطوّرات الجديدة والتدهور الذي يصيب العلاقات الاميركية ـ الايرانية في رفع درجة الحاجة الى توازنات جديدة تسمح لتركيا بتوسيع دورها في سوريا.
لكنّ للكونغرس الاميركي مشكلاتٍ أُخرى مع الطموح التركي مثل شراء أنقرة منظومة الدفاع الجوّي الروسي «إس 400» وهي المنظومة الاكثر تطوّراً في العالم. فإتمام هذه الصفقة وتركيز هذه المنظومة في تركيا سيسمح للردارات بمراقبة التقنيات الاميركية الاكثر تطوّراً، وستكون روسيا حاضرة، لا بل متلهّفة للحصول على المعلومات المطلوبة.
وفي اسطنبول تشعر في وضوح بالسعي التركي لدور اوسع وأفعل في الشرق الاوسط وربما أبعد منه. فالرئيس التركي يجد وقتاً لحضور مؤتمر «جبل الزيتون» حول القدس، ويلقي كلمة وسط تصفيق الحضور الذي غلب عليه الطابع الفلسطيني والعربي.
وفي مؤتمر الصحافيين العرب حضور واسع من كافة البلدان العربية، وذلك بعد اختتام مؤتمر المثقفين العرب، اضافة الى مؤتمرات أُخرى تخصّ العالم العربي.
صحيح أنّ العنوان العريض المشترَك لكل هذه المؤتمرات هو «البحث عمّا يوحّدنا»، إلّا أنّ مؤتمرَ الصحافيين العرب حمل عناوين اضافية:
- إنتقاد صريح للغرب الذي يريد إلغاءَ ثقافتنا.
- الكفاح ضد الهجمة الأميركية والغربية.
- التعامل المباشر في ما بيننا ومن دون وساطة غربية أو أجنبية.
- أن تشكّل اسطنبول مركزَ لقاء دائم للمؤتمرات الإعلامية وأن تحمل قضاياهم.
- إنتقادات واضحة لإيران ودورها التوسّعي في العالم العربي.
- إنتقادات خافتة للسعودية في مقابل غياب لوسائل إعلامها وحضور واضح لقطر.
- التذكير دائماً بوجود ثلاثة ملايين ونصف مليون نازح سوري تحتضنهم تركيا من دون الحصول على مساعدات غربية، كما قال أردوغان، اضافة الى التذكير بوجود زهاء 700 ألف عربي في اسطنبول وحدها.
قريباً جداً تجري الانتخابات في تركيا والتي أرادها أردوغان أن تكون مبكرة وقبل مواعيدها. وقد يكون السببُ الاستفادة من التأييد الشعبي الذي بلغ ذروته. فعلى رغم المؤشرات السلبية في قطاعَي الاقتصاد ومكافحة الإرهاب فإنّ آخر الإحصاءات أعطت تأييد 80% من الأتراك لعملية «غصن اليتون»، ولكنّ اللافت أنّ 90% منهم يعتبرون الولايات المتحدة الأميركية مصدرَ تهديد للأمن القومي التركي.
في العام 2017 تمّ الاستفتاء على الدستور بهدف تحويل تركيا من نظام برلماني الى نظام رئاسي، ولكنه أنتج فوزاً صعباً خصوصاً في المدن الرئيسة. وفي العام 2018 اختار أردوغان اللحظة المؤاتية للفوز بكل ما يطمح اليه داخلياً استعداداً لإدخال تركيا لاعباً مؤثراً وصاحبَ دور اكبر في الشرق الاوسط. وكلما ازداد تشابك الخيوط وازدادت التعقيدات كلما أرتفع الأمل التركي في تحقيق المبتغى.