إستولدت الكلمة أزمة، لا، إنّها قائمة، متفاقمة، فيها البُعد الأخلاقي والتاريخي. من 33 في المئة من عدد السكّان المسيحيين الأتراك، إلى 120 ألفا، ومن كنيسة آيا صوفيا البيزنطيّة، التحفة المعماريّة، إلى متحف لتنشيط السياحة، ومن بولس الرسول ورسالته الأولى إلى أهل كورانتوس إلى رسالة الرئيس رجَب الطيّب أردوغان إلى البابا فرنسيس، «إنّني أندّد بالغرب الذي تجتاحه مشاعرُ العَداء للمسلمين؟!».
قال البابا كلمته، إستخدمَ كلمة «إبادة» للتعريف عن المجازر التي ارتُكِبت في حقّ الأرمن، فانتفضَ أردوغان، وحرّكَ القنوات الديبلوماسيّة للتعبير عن غضَبِه واستهجانِه. المشكلة أنّ هناك مَن يريد طمسَ التاريخ، في الوقت الذي يُنَصّب نفسَه وصيّاً عليه، ويحاول أن يخطّ تاريخ المنطقة من طريق دعم الأصوليات ومساندتها ضدّ الأقلّيات.
جاء البابا فرنسيس إلى تركيا في 28 تشرين الثاني 2014، في زيارة رسميّة بدأت ظهر الجمعة، وانتهَت ظهر الأحد، إستقبَله في المطار وزير الخارجيّة محمد شاوش أوغلو، بدلاً من أردوغان، حسبما يقضي البروتوكول الديبلوماسي، وحرصَ الأخير على أن يكون الاجتماع في القصر المنيف المثير للجَدل.
شاء البابا أن يُعزّز الصِلات مع القادة المسلمين، ويثير وضعَ المسيحيين وسائر الأقلّيات في تركيا وسوريا والعراق الذين يتعرّضون للإبادة على يد «داعش» و«جبهة النصرة» وسائر الأصوليات التي تدعمها تركيا، وتشرف على عمليات التسَلّل عبر أراضيها وموانئها ومطاراتها، وتقديم سائر التسهيلات لها».
لم تكن الزيارة ناجحة من حيث المردود العمَلي. شنَّ أردوغان حملةً عسكريّة استعراضية مكوّنة من مئة دبّابة، وناقلات جند، وأرتال من السيارات العسكريّة، وأسراب من الطائرات الحربيّة، لاستعادة رفات سلطان شاه، ونقلِه إلى مكان آمِن، في حين أنّه عجزَ عن إطلاق المطرانَين بولس اليازجي ويوحنا إبراهيم، على رغم كلّ الوعود، وتبيَّنَ على ذمّة بعض المعنيين المتابعين حيثيات هذا الملف، أنّه قادرٌ على أن يفعل، إلّا أنّه لا يريد، وهو يبحَث عن صفقةٍ دسمة لينجزَ ترتيبات التبادل.
تستقبل تركيا أكثرَ مِن مليون ونصف مليون نازح، بينهم آلاف المسيحيّين الذين فرّوا مِن العراق وسوريا، وجاء البابا فرنسيس ليَطّلعَ على أوضاعهم، وغادرَ ومعه جعبة من الوعود المعسولة التي بقيَت حِبراً على ورق، وأصبحَت في عالم النسيان.
جاء ليبحثَ في سُبل تعزيز العلاقات الإسلاميّة – المسيحيّة انطلاقاً من نظرةٍ مثالية إلى الحكومة التركيّة بصفتِها نموذجاً للإسلام السياسي، وتوسَّع في تبسيط رؤيته الحواريّة المتسامحة في العلاقات المسيحيّة – الإسلاميّة، وإذ بالوقائع والمستجدّات تكشف عن ضعف الإرادة، وبطء التنفيذ، والإصرار المتعمَّد على النهج التصعيدي التصادمي.
لم تفتعل كلمتُه أزمةً، إنّها موجودة، لا يمكن طمس التاريخ، لا يمكن تزوير الحقائق، والكلام أبعدُ من نبشِه، الكلام حول مَن يصنعه، هنا تكمن المشكلة. الإبادة الأرمنيّة حقيقة يُبنى عليها، شعبٌ حيّ يرفض طمسَ تاريخه، والاستهتارَ بحقوقه، وليست هذه الجريمة الأولى، ولن تكون الأخيرة.
عندما حملَ محمّد علي أقجا بندقيته الحربيّة وصوَّبَها في اتّجاه البابا القدّيس يوحنا بولس الثاني عام 1981، لم يكن الهدف اغتياله، بل اغتيال المشروع. وضعَ البابا الراحل اللبنة الأولى لتوحيدِ الكنيسة، زار بطريركيّة القسطنطينيّة المسكونيّة، بطريركيّة إنطاكيا تاريخيّاً، وتلمَّسَ معالم الطريق للعمل على الوحدة المسيحيّة ما بين الشرق والغرب.
تركيا لا تريد، إنّها ضدّ المشروع، ومِن الساعين والناشطين على تقويضه من أساساته. أكملَ البابا بنديكتوس السادس عشر المهمّة، وزار تركيا عام 2006، والتقى البطريرك المسكوني، وجوبِهَت زيارته يومَها بمضايقات وانتقادات لاذعة. حاولَ البابا فرنسيس أن يسيرَ على درب سَلفَيه، ويكملَ المهمّة، إلّا أنّ أردوغان لا يريد أن يتحمّلَ كلمة، فكيف به يتحمّل قضيّة.
يهتزّ لبنان من الوتَر الديبلوماسي النشاذ، الفاتيكان عزيز، له مكانة، وصاحبُ فضل، وتركيا أيضاً الجارة، والعلاقات التاريخيّة. لا يريد اللبنانيّون أن يحصدوا الريحَ، ولا أن يصبح الإعصار داخلَ البيت.
القضيّة الأرمنيّة تتفاعل على أرضه، والمواطنون الأرمن جزءٌ لا يتجزّأ من مجتمعِه، من ماضيه، وحاضره، ومستقبله، وبالتالي لا بدّ من الحِكمة، والحِنكة، ولا بدّ من تمرير المصالح بين الأفخاخ المنصوبة حمايةً للقضايا الصغيرة والكبيرة في زمن مصيريّ تتآلب فيه الدوَل النافذة والمتمكّنة على كتابة تاريخ المنطقة بدماء شعوبها المقهورة المغلوب على أمرها. الحِكمة والحِنكة مطلوبتان لرَسملةِ مهمّة المدير العام للأمن العام اللواء عبّاس إبراهيم. العسكريّون المختطفون ينتظرون؟