Site icon IMLebanon

تركيا وحسابات الدولة المُسيرة

 

أدت نتائج حرب الخليج الثانية إلى تصدعات جيواستراتيجية في نظام المصالح التركية إقليمياً ودولياً، انعكست ارتداداتها السلبية على ما كانت تعدّه مراكز صناعة القرار في أنقرة من ثوابت الأمن القومي التركي، فقد كشف الارتباك التركي في التعامل مع نتائج «عاصفة الصحراء»، وإضعاف الحكومة المركزية في بغداد، وغياب سلطة العاصمة السياسية عن الأقاليم، خصوصاً في مناطق كردستان العراق المحاذية للحدود التركية، عن خلل عميق في تعامل الدولة المُسَيرَة وريثة الدولة العثمانية العميقة مع القضية الكردية وتحولاتها، وظهر ذلك بعد تمسك الدولة بجناحيها السياسي والعسكري بالقراءة الأمنية لمعالجة الملف الكردي، الذي تحول خلال ثلاث محطات مفصلية مرّت بها المنطقة بداية من حرب 1991 وحرب 2003 حتى الثورة السورية 2011، إلى معضلة اجتماعية وثقافية وسياسية وأمنية خسرت فيها أنقرة كثيراً من امتيازاتها الإقليمية والدولية، وفي المقابل أضاع الأكراد فرصاً كثيرة لا تعوض، بعدما أساءوا التصرف بحق قضيتهم وتعاملهم السلبي مع محيطهم، مما أدى إلى خسارتهم جزءاً من التعاطف الدولي، ودخولهم في مواجهات إقليمية كرروا خلالها الأخطاء التاريخية ذاتها، نتيجة سوء تقديرهم للزمان والمكان وثقتهم المفرطة بمن اعتقدوا أنهم حلفاء.

تاريخياً، وحدَهُ الرئيس التركي الأسبق الراحل تورغوت أوزال حذّر المؤسسة العسكرية والطبقة السياسية في بلاده سنة 1991 من خريطة التحالفات الجديدة في المنطقة، بعد سقوط نظام صدام حسين الذي تأخر 12 عاماً، وطالب بتخلي الدولة عن حذرها التاريخي المبالغ فيه من فكرة التعامل مع جماعة كردية خارج الحدود، في إشارة واضحة منه إلى أكراد العراق الذين عدّهم في تلك اللحظة ورقة تركيا الرابحة في خريطة التوازنات العراقية الجديدة، بعدما عدّ أن شيعة العراق سيكونون من حصة إيران، وأن دور السنّة سيضعف مع رحيل نظام البعث، وليس للتركمان قوة يمكن الاتكال عليها من أجل خلق التوازن مع إيران والولايات المتحدة، لذلك قام بالخطوة السياسية الأكثر جراءة في تاريخ تركيا الحديث، واستقبل في قصره الراحل جلال طالباني ومسعود برزاني؛ خطوة فسرت حينها بأن أنقرة قررت التخلي عن مفهوم سياسية «صفر مشكلات» مع جوارها الإقليمي، التي اعتمدها الرئيس الثاني للجمهورية وزير خارجية أتاتورك عصمت إينونو.

سياسياً، شكلت مبادرة تورغوت أزوال حينها تجاه أكراد العراق الفرصة لواشنطن، من أجل فتح حوار علني معهم بعدما بقيت لسنوات مترددة تجاههم خوفاً من غضب تركيا حليفتها الأقوى في الناتو، خصوصاً أن واشنطن التزمت الابتعاد عن الأكراد بعد الحادثة التي كادت تضرب أسس علاقتها بأنقرة سنة 1988، أثناء زيارة الرئيس التركي الجنرال كنعان افرين إلى واشنطن، التي تصادفت مع أول زيارة للزعيم الكردي جلال طالباني إلى الولايات المتحدة، حيث التقى لاري بوب مسؤول العلاقات التركية والإيرانية في وزارة الخارجية الأميركية، وقد أدّى هذا اللقاء إلى إثارة غضب كنعان افرين الذي عدّ أي تشجيع لكرد العراق هو تشجيع لعشرة ملايين كردي في تركيا، مما دفع الخارجية الأميركية إلى التأكيد على أن واشنطن لا تتدخل في شؤون الدول الداخلية التي تضم أقليات كردية.

أدى موت أوزال المفاجئ سنة 1993 إلى انتصار خيار الدولة المُسَيرة في أنقرة، والعودة إلى ممارسة السياسات التقليدية تجاه القضية الكردية، حيث تمسكت الحكومات المتعاقبة بمواقفها حتى بعد سنة 2003، مما أدى إلى تأزيم العلاقة مع واشنطن وخسارة أنقرة موقعها في خريطة التوازنات العراقية الجديدة، هذه الخسارة شكلت جرس الإنذار لحكومة حزب العدالة والتنمية سنة 2012، عندما برر مستشار الخارجية التركية فرديون سينيرلي أوغلو موقف بلاده من الثورة السورية بقوله: «لا نريد أن نكرر الخطأ الذي ارتكبناه فيما مضى مع المعارضة العراقية». إلا أن إردوغان منذ أكثر من سنة، ونتيجة خلط الأوراق الدولية في المنطقة، أعاد تموضعه وفقاً لحسابات الدولة المُسيرة ومنهجها التقليدي الذي تستفزه وتستنفره تحولات المواقف الأميركية رغم أن بعضها يتماهى مع مصالح أنقرة، كما تَكَشفَ في معركة عفرين التي سبقتها تناقضات أميركية في التصريحات فتحت الطريق أمام عملية عسكرية تركية لا يمكن التكهن بتداعياتها، خصوصاً أنها من الممكن أن تتحول إلى صاعق تفجير قد يؤدي إلى انفجار الوضع في سوريا والمنطقة، وانفجار بات من الصعب تفاديه بعد أن اقتربت أغلب الأطراف من وضع اللمسات الأخيرة على شكله وخريطة تحالفاته، والذي بات يفرض على واشنطن أن تحدد موقفها من الأكراد، الذين تخلت عنهم جزئياً في عفرين، ومن الأتراك الذين حولتهم إلى لاجئين سياسيين في موسكو وطهران.