بالنسبة إلى النائب وليد جنبلاط،
أبو ترابة هو «أبوعدس» الدرزي. والنظام السوري «جسمُه لبّيس». لكنّ لغز اغتيال الشيخ أبو فهد، وحيد البلعوس، في جبل الدروز ينضمّ إلى ألغازٍ أخرى تنتظر يوماً يضيء على وقائعها.
في أوساط الدروز خصوم جنبلاط، قراءة أخرى لاغتيال الشيخ البلعوس. ويقال: المسألة أكبر من الحجم المعطى لها. إنّها تتعلّق بصراع السيطرة على المناطق في سوريا. وما تتعرَّض له السويداء هو تحديداً محاولة من جانب «جبهة النصرة» لفتحِ ثغرةٍ تقود إلى السيطرة على دمشق من بوّابتها الجنوبية. فالعاصمة هي المستهدفة في النهاية.
وفي تقدير البعض أنّ الفشل في دخول دمشق من بوّابات أخرى، زاد الضغط في السويداء. فمعركة الزبداني أثبَتت أن لا مجال للخَرق من الجهة الغربية، كما أنّ إسقاط حمص بات أمراً شديد الصعوبة، فلم يبقَ سوى البوّابة الجنوبية. ويتحدّث مصدر درزي مؤيِّد للنظام عن مداولات تقضي بإلحاق السويداء بإمارة «النصرة» في درعا، وبرعاية أردنية.
فهناك، في غرفة الموك، وفقاً للمصدر، ضبّاط خليجيون وأميركيون ومن دوَل إقليمية أخرى. وهؤلاء يقدّمون الدعم اللوجستي ويتوَلّون تحضير الأرضية لتتمكّن «النصرة» من بناء حزام يمتدّ من الحدود الأردنية إلى وادي اليرموك فالقنيطرة.
ولذلك، يحاكي الملك الأردني عبدالله زعماء العشائر العربية هناك سعياً إلى حصّة له. ويسمّي المصدر الدرزي عميداً فارّاً من الجيش السوري هو فرج المقت منخرطاً في هذه الأنشطة، إضافةً إلى ضابط درزي أردني من آل الأعور. ويقول إنّ الشيخ موفق طريف هو الذي نَقل من الأردن الرسالة التي تتضمّن شروط «النصرة» إلى دروز جبل العرب.
ما دور البلعوس؟
يقول المصدر: لم يكن الشيخ «أبو فهد» في البداية مهتمّاً بلعِب دور سياسي. ولكنّه، مع بدء الحرب في سوريا، بدأ يَعترض على سلوكيات بعض الأمنيين العاملين في جبل العرب. فهؤلاء كانوا يرتكبون تجاوزات شبيهة بتلك التي كان يرتكبها الأمن السوري في لبنان. وهذا الموقع الاعتراضي بدأ يَدفع بالبلعوس إلى البروز. وحوَّله تدريجاً مرجعية سياسية في السويداء. ولاحقاً، عندما وَقعت الإشكالات بين دروز السويداء وسُنّة درعا، نشَأت حُكماً اتصالات بينه وبين «النصرة»، وتوَصَّل معها إلى تعهّدات متبادلة بعدم اللجوء إلى الخطف المتبادل.
ويكشف المصدر أنّ «النصرة»، مع اندلاع معركة التعلة، وعَدت الشيخ البلعوس بتسليمه المطارَ العسكري والسويداء بعد السيطرة عليهما. لكنّه رفض أن تقوم «النصرة» باحتلال المنطقة، وأبلغَها أنّه مضطرّ إلى قتالها لمنعِ سيطرتها على الجبل. فقد رفَض أن يكون «حصان طروادة» في الجبل.
وبالنسبة إلى المصدر، لم يكن البلعوس معادياً للرئيس بشّار الأسد بمقدار ما يتمّ تصويره بعد الاغتيال. فهو كان يوجّه انتقادات إلى بعض الدائرة المحيطة بالرئيس، لكنّه بقيَ يؤمن بأنّ الدروز هم جزء من الدولة السورية الواحدة. فسلطان باشا الأطرش كان بطلَ استقلال سوريا الموحَّدة، ولم يقبَل بعرض الانتداب الفرنسي عليه إقامة دويلة درزية. وكلّ هاجس البلعوس كان يُختصَر بخَلق تفاهم بين دروز الجبَل وسُنّة درعا لحماية الأقلّية الدرزية تمريراً للأزمة.
ولذلك، يَجزم المصدر بأنّ الذي يقف وراء الاغتيال ليس النظام السوري. ويبرِّر ذلك بالقول: إنّ 90% من دروز سوريا ليسوا معادين للنظام، ليس لاعتباره نظاماً، بل لاعتباره رأسَ الدولة. فالدروز مع الدولة لا النظام.
ويقولون: لقد كان سلطان باشا الأطرش أحدَ أركان الاستقلال. وعَرض عليه الفرنسيون أن يستقلَّ الدروز بدولة، لكنّه اختار الدولة السورية الموحّدة. وإذا كانت غالبية الدروز السوريين مؤيّدة للنظام، فما هي مصلحته في تنفيذ عملية اغتيال تشعِل نقمتَهم عليه، فيصبح نصفُهم مثلاً ضدّ النظام؟
وفي تقدير المصدر أنّ مَن اغتالَ البلعوسي يدرك أنّ التفاعلات الدرزية الناتجة عن العملية ستكون كبيرة وتتفاقَم. وهو لذلك أتبَع الإنفجار الأوّل بانفجار ثانٍ على باب المستشفى، ما أدّى إلى تكبير حجم الكارثة.
ويتّهم المصدر جبهة «النصرة» بالاغتيال، وقال: حاولَت الجبهة استيعابَ البلعوس، وعندما يئسَت من محاولاتها، عمدَت إلى إزاحته وزرعِ الشكوك في النظام لإثارة النقمة الدرزية عليه، لعلّها تصيب عصفورين بحجر واحد.
ويشرح المصدر الدرزي الموالي للنظام ملابسات اتّهام رافد أبو ترابة بتنفيذ الاغتيال. ويردُّ على مقولة «أبو عدس» الدرزي، فيقول: هذا الرجل له ارتباطات أمنية معيّنة مع خصوم النظام. وهو اعترفَ بجريمته أمام أشقّاء البلعوس، وأمام مشايخ العقل الثلاثة: الشيخ حمود الحناوي والشيخ يوسف جربوع والشيخ حكمت الهجري، وأمام الشيخ ركان الأطرش، المرجعية الدرزية الروحية الأرفع في الجبل.
وليس من عادة المشايخ الدروز أن يَخافوا قولَ الحقيقة لو لم يَقتنعوا بها. وهذا ما يبَرّر أطلاقَ الشيخ ركان، في 5 أيلول الجاري، أي بَعد الاغتيال، حُرماً يَعتبر فيه أنّ كلّ درزي يقوم باعتداء على الجيش السوري يكون مقطوعاً من دينِه.
أبو ترابة مرَّ من هنا؟
وتأكيداً لذلك، يكشف المصدر أنّ مراجع أمنية لبنانية تتداوَل معلومات مفادُها أبو ترابة مرَّ في بيروت، في 24 آب الفائت، آتياً من تركيا. ومنها توَجّه إلى منطقة بقاعية محدّدة، قريبة من جبل الدروز، ثمّ غادرَ إلى السويداء حيث نفَّذ العملية في 4 أيلول.
وفيما يَعتبر جنبلاط الشيخ البلعوس شهيداً قضى في مواجهة النظام السوري، ويَدعو إلى مهادنة «النصرة»، يقول خصومُه إنّ هذا الأسلوب لا يوفِّر الحماية لدروز سوريا. ومن الأمثلة ما تعرّضَت له بلدة قلب لوزة في إدلب.
فقد اجتمعَ إرسلان بأهالي البلدة قبل حصول المجزرة بنحو ستة أشهر، وأبلغَهم بأنّ الأفضل لهم مغادرتها. فالمنازل يمكن بناؤها مجدّداً، والأملاك تُستعاد لاحقاً، وأمّا الخسائر بالأرواح والأعراض فلا يمكن تعويضها. واليوم، لم يبقَ في البلدة من أصل 18 ألف نسمة سوى 6 آلاف أُجبِر كثيرون منهم على إشهار إسلامهم.
إذاً، دروز سوريا يتأرجحون بين منطقين: المداراة لتقطيع المرحلة، والاحتماء بالنظام. والجَدل هنا ساخن بين الدروز في سوريا ولبنان. ولكن، إذا لم تستعِد سوريا وحدتَها وأمنَها، فدروز جبل العرب يبدون أمام خيارَين: إمّا الاستسلام لـ»النصرة» وإمّا إسرائيل.
وهذان الخياران يشبِهان الخيارين اللذين كانا مطروحين على مسيحيّي الجنوب اللبناني عند بداية الحرب الأهلية في 1975. ونتيجة الأخطاء الهائلة التي جرى ارتكابها بحقّ المسيحيين في القليعة ومرجعيون وسائر القرى الحدودية، وجَد هؤلاء أنفسَهم أسرى الفخّ الإسرائيلي. فدفَعوا الثمن هم والآخرون جميعاً.