الخسارة الانتخابية النسبية التي حلّت بحزب «العدالة والتنمية» التركي وأجهضت أحلام الرئيس رجب طيّب اردوغان في ان يصبح الحاكم المُطلق في بلاده والقائد الأوحد في حزبه والمرجع لعموم أبناء تيّاره، هذه الخسارة يعتبرها كثيرون إحدى اهم التحوّلات الاستراتيجية في تركيا والمنطقة عموماً، بحيث يمكن الحديث عمّا قبل 7 حزيران (موعد الانتخابات) وبعد 7 حزيران.
لقد كثرت التحليلات في أسباب تراجع نفوذ اردوغان وحزبه بين الناخبين الاتراك الذين شارك أكثر من 80 في المئة منهم في العملية الانتخابية، في اشارة واضحة الى حماسة عارمة في التغيير.
البعض يعتبر أنّ أداء اردوغان الداخلي هو وراء هذا التراجع فقط، فقد تلطّخت سمعة المسؤولين الكبار في حزبه بالفساد، كذلك تلطّخت أيدي بعضهم بدماء المتظاهرين في المدن والحواضر التركية، اضافة الى عجزه عن حل المشكلة الكردية بعدما علّق اكراد كثيرون آمالهم على حزب إسلامي متحرّر من النزعة العنصرية ومنفتح على جميع مسلمي تركيا بتُركِها وكُردها وعَربها.
ولن ينسى كثيرون من الاتراك ايضاً انّ هذا الحزب الذي حملته ورئيسه صناديق الاقتراع على مدى 13 عاماً ليُقدّم أنموذجاً جذاباً للعلاقة بين الاسلام والديموقراطية، فإذ به ينتهك الحريات الاعلامية ويمنع مواقع التواصل الاجتماعي ويزجّ بالمئات من الصحافيين في السجن، فيما أخذ «إسلامه» ينحو منحى أهل الغلو والتطرف فيشجع المسلمين المتشددين في سوريا والعراق وليبيا، وحتى مصر، من دون ان يأبه لخطر ارتداد هذا النهج التدميري الى داخل تركيا.
غير انّ البعض الآخر يعزو هذا التراجع الاردوغاني ايضاً الى أسباب تتعلّق بالسياسة الخارجية لتركيا، خصوصاً انّ اردوغان ومعه رئيس وزرائه احمد داود اوغلو قد وعدا بـ«صفر مشكلات» بين تركيا ودول الجوار، فإذ بتركيا في السنوات الاخيرة تواجه مشكلات مع جميع جيرانها، بدءاً من سوريا الى العراق وايران وروسيا وارمينيا وصولاً الى اليونان، ويتحوّل حلم التحاقها بالاتحاد الاوروبي أضغاثاً بسبب ما اعتبرته اوروبا عدم التزام شروط الانتساب الى اتحادها.
ومن بين الاسباب الخارجية كان التورّط التركي في الاحداث السورية عاملاً أثار جميع معارضي اردوغان من الاحزاب الثلاثة الفائزة بمقاعد في
المجلس النيابي التركي الجديد.
فهذه الاحزاب، اليسارية واليمينية، العلمانية والقومية، تختلف في ما بينها على معظم القضايا، لكنها تتفق على رفض سياسة اردوغان تجاه سوريا، وهي سياسة أدخلَت الى تركيا مليوني نازح سوري، يكلّفون الاقتصاد التركي ما قيمته اربعة مليارات دولار كل عام، كذلك فتحت مناطق تركية واسعة على امتداد الحدود مع سوريا والعراق لهذه المجاميع المتشددة التي أثبتت التجارب انها سرعان ما تنقلب على حاضنيها الاوائل وتبدأ بلَدغهم كما هي حال باكستان مع تنظيم «القاعدة» وحال سوريا مع الجماعات المسلحة التي فتحت لها الطريق لمقاومة الاحتلال الاميركي في العراق، فإذ بها ترتدّ على النظام في دمشق.
ولا يخفي هؤلاء أنّ التباين بين السياسة التركية والسياسة الاميركية تجاه الازمة السورية ساهم كذلك في ما يسمّى شَدّ الحبال بين واشنطن وأنقرة، برزَ خصوصاً مع تردد اردوغان في الانضمام الى التحالف الاميركي الذي لم ترده واشنطن لمواجهة «داعش» و«جبهة النصرة» كما تقول فقط، بل من اجل اصطفاف دول المنطقة كلها تحت العباءة الاميركية بعدما ظهر اكثر من تَململ بين انظمة كانت واشنطن تعتبرها دائماً منفّذة لسياساتها في المنطقة.
لكن السؤال يبقى: هل سينعكس هذا التراجع الاردوغاني على الواقع في منطقتنا، وخصوصاً في السياسة التركية تجاه سوريا والعراق؟
المحللون هنا يربطون بين توقعاتهم وشكل الحكومة التركية المقبلة، فهل ستكون ائتلافية بين حزب «العدالة والتنمية» وبين حزب أو اكثر من الاحزاب الفائزة في الانتخابات؟
أم ستتجه الاحزاب الثلاثة الى تشكيل حكومة «أقليّات» انتخابية وما يقوده ذلك الى عدم استقرار مثلما نرى في ايطاليا مثلاً، او مثلما نرى في مصر قبل 23 يوليو 1952 حين كان القصر يجمع أحزاب الأقلية ليُبعد حزب «الوفد» الذي يتمتع بالغالبية النيابية عن تشكيل الحكومة.
في كل الحالات ستكون تركيا امام أحد احتمالين: امّا مراجعة جذرية لسياساتها في الداخل والخارج، او أمام مرحلة من عدم الاستقرار السياسي الذي قد يقود الى عدم استقرار اقتصادي وأمني.
سياسي مخضرم قال في هذا الصدد: «لو انّ اردوغان تصرّف كرئيس دولة لا كرئيس حزب لَفازَ حزبه وانتصرت دولته. أمّا وانه قد تصرّف كرئيس حزب او كرئيس تنظيم دولي فقد خسر حزبه وخسرت دولته. لقد بدأ «الربيع الاسلامي» مع وصول اردوغان الى السلطة قبل 13 عاماً، وشعر اردوغان مع «الربيع العربي» أنه سيحكم عواصم عدة بدءاً من تونس والقاهرة وصولاً الى دمشق وصنعاء، فإذ به يخسر تلك الأحلام واحداً تلو الآخر حتى وصلت الخسارة الى عرينه هو».
ويضيف هذا السياسي المخضرم: «لقد ظنّ اردوغان انه قادر على ان يصبح سلطاناً على امبراطورية عظمى، لكنّ التطورات جَرت لتؤكّد له أن لا مكان للامبراطوريات في ايّامنا هذه، فحتى الامبراطورية الاميركية التي اعتبر المؤرخ الاميركي الياباني الاصل فوكو ياما أنها نهاية التاريخ، تشهد اليوم تصدّعاً في الداخل والخارج على حدّ سواء».