قيادات حزب «العدالة والتنمية» الحاكم في تركيا تقول هو تعديل دستوري لا علاقة له باستهداف شكل النظام، بل تغيير شكل العمل الحكومي في البلاد، وإنّ التعديلات المطروحة هدفها تسريع آلية اتخاذ القرارات وتنفيذها في البلاد أمام البيروقراطية المُعقّدة. لكنّ المعارضة تقول إنّ ما يجري له علاقة مباشرة بتغيير نظام برلماني معمول به منذ 140 عاماً في البلاد.
قناعة قيادات العدالة أيضاً أنّ هذا الضجيج الذي يُثيره حزب الشعب الجمهوري المعارض حول مشروع قانون التعديلات الدستورية الذي يَشمل 18 مادة، لن يعيق قرار قبوله خلال أقلّ من شهر من قبَل تحالف الحزب ونواب الحركة القومية اليميني بأكثرية تتجاوز 330 صوتاً، تفتح الطريق امام نقلِ القانون الى الاستفتاء العام وتصويت الناخب التركي عليه.
قناعة الرئيس التركي ايضاً هي نفسها، لن ينجح من يحاول عرقلة قرار الإرادة الوطنية واحتكارها في قطعِ الطريق على ممارسة المواطن التركي حقّ إعطاء قراره حول القانون ودخوله حيّز التنفيذ، فالمواطن يَعرف من الذي يخدم تركيا، ومن الذي يحاول منعَ انطلاقها في الداخل والخارج، كما يقول.
البرلمان التركي منذ اسبوعين تقريباً لا يناقش مواد تعديل الدستور ومضمونها وأهمّيتها وسط حوار ديمقراطي شفاف يتابعه المواطن ليحدّد موقفه من الاقتراحات المطروحة، بل هي عمليات الكرّ والفرّ السياسي بين طرفين أحدُهما يريد الوصول الى ما يريد وآخر يريد العرقلة والحؤول دون صدور هذه التعديلات.
بعد 4 أيام من الجلسات الماراتونية قبلت المادة الخامسة من التعديل المطروح. لكن آخر المشاهد تحت سقف البرلمان التركي الذي استهدفَته طائرات ضباط محسوبين على جماعة غولن والكيان الموازي ليلة 15 تمّوز المنصرم في محاولة انقلابية فاشلة، كانت العراك والاشتباكات والشتائم والاتهامات المتبادلة بين نواب الفريقين لتُحسَم بهدنة موقّتة بعد سقوط العديد من الإصابات، وتحطيم منصّة الخطابة في البرلمان، الذي وضَع نواب الشعب الجمهوري المعارض اليدَ عليه باسمِ الديمقراطية، فذكّرهم نواب العدالة أنّهم ليسوا في قاعة مسرح او مسرحية لتقديم هذه العروض الفنّية.
التغيير يعني نظاماً سياسياً جديداً في تركيا يُنهي موقعَ رئيس الحكومة، ويُطلق يدَ رئيس الجمهورية في صلاحيات دستورية أوسع، ويعطيه حقّ أن يكون رئيساً حزبياً خلال أداء مهامه، وهي حتماً لا تقلّ قيمةً وأهمّية عن اعلان دستور تركي جديد.
لكن استطلاعات الرأي تقول إنّ غالبية المواطنين الذين سيذهبون للإدلاء بأصواتهم في مسألة حسّاسة من هذا النوع بعد 3 أشهر ربّما، لا تعرف تفاصيل المشروع المقترح وإيجابياته أو سلبياته، وما يحمل من تغيير في دستور العسكر، الذي وصل الى الحكم بعد انقلاب على السلطة المدنية عام 1980، وقُبل في استفتاء عام ايضاً حصل على دعم 90 في المئة من اصوات المواطنين الاتراك، الذين عادوا ورفضوه بعد عامين فقط على دخوله حيّز التنفيذ.
المعارضة في حزب الشعب الجمهوري تتساءل عن الأسباب التي دفعت دولت بهشلي رئيس حزب الحركة القومية للتخلّي عن مواقفه وحملاته التي كان يشنّها ضد الحزب الحاكم في موضوع التعديلات الدستورية قبل عام، واتهامه العدالة والتنمية بالتنسيق والتفاهم المباشر مع زعيم حزب العمّال الكردستاني عبد الله اوجلان.
نواب في المعارضة يتناقلون على مواقع التواصل الإجتماعي صوراً التقطوها لنواب يكشفون عن اوراقهم وخيارهم في التصويت لمنع الشبهات التي تدور حولهم في صفوف الحزب، على رغم أنّهم يعرفون جيّداً مخالفتهم للنظام الداخلي للمجلس.
أصوات في صفوف الداعمين لرزمة التعديلات الدستورية بدأت منذ الآن تقول إنّ عدم قبول المشروع من قبل البرلمان يعني ذهاب تركيا الى انتخابات عامة مبكرة، وهو ما وصَفته المعارضة بمحاولة مكشوفة لتهديد النواب بضرورة قبول الاقتراح، او تحمّل مسؤولية الذهاب الى الانتخابات حيث قد لا يكون لهم مكان على اللوائح الحزبية هذه المرّة.
المغيَّب عن النقاش هو المسار الذي تتقدّم فيه تركيا، كما يقول البعض، من خيار حزب الدولة الى دولة الحزب، ومسؤولية الرد هنا تعود الى اصحاب مشروع القانون ليَشرحوا بإسهاب إيجابيات وفوائد ما يطرحونه سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وأمنياً على تركيا.
الحزب الحاكم الذي قدّمَ لتركيا إنجازات إنمائية واستراتيجية عملاقة في الداخل والخارج، ونَقل البلاد من مكانة الى اخرى بين الدول الأغنى والاقوى في العالم، لا بدّ ان يعتمد استراتيجية اخرى في الدفاع عن خطط التعديلات الدستورية هذه.
الدستور هو عَقد اجتماعي ينظّم العلاقة بين مكوّنات المجتمع في دولةٍ ما، ولا بدّ خلال إعداده من إشراك أوسع شريحة ممكنة في القرار.
القيادات السياسية التركية فشلت اكثر من مرّة في الاتفاق حول اعلان دستور جديد، على رغم أنّه مطلب الجميع في البلاد.
لكن ما يُراد تغييره في الدستور الحالي هو أبعد من ان يكون عملية تغيير بسيطة، الهدف أبعد من توسيع صلاحيات منصب الرئاسة، بل تغيير دستوري وسياسي وحكومي وحزبي في عمقِ روح دستور عام 1982.
أقلام كثيرة تدعو النواب إلى الاحتكام الى الوجدان قبل الالتزام بالقرار والموقف الحزبي في مسألة إعطاء رأيها حيال ما يجري أولا ً، ثمّ مساعدة المواطن على إعطاء قراره الصحيح عبر تزويده بالمعلومات والنقاش الموضوعي ثانياً.
نقاشات التعديلات الدستورية في تركيا لا تزال في بدايتها تستحقّ المتابعة عن قرب، لأنّ تركيا كانت بين المدافعين عن الربيع العربي وثوراته، ولأنّ العديد من شعوب المنطقة، لا تزال ترى في تركيا النموذجَ السياسي والدستوري الأنجح بين دول المنطقة.